اليأس المريح

04:44 صباحا
قراءة 3 دقائق
د. عبد العزيز المقالح

هل وصلت الأمة العربية في واقعها الراهن إلى اليأس المريح؟ وهل هناك فعلاً ما يسمى باليأس المريح؟ أم أن اليأس حالة واحدة لا يتخللها منفذ لشعاع من الأمل أو ومضة من الارتياح.
ويبدو أن وصف اليأس بالمريح يعود إلى الشعراء هؤلاء الذين يروجون في كثير من تعابيرهم الشعرية المتخيّلة لمقولات لا تخضع للمنطق ولا يعترف بها الواقع، بل لقد بلغ بهم الحال إلى اختراع تعابير جديدة لا تقل بعداً عن الحقيقة ومناوأة للواقع مثل تعبير «اليأس اللذيذ» ، وهو أرقى من سابقه في الخيال وأبعد منه عن الحقيقة، وهي تعابير شعرية تبالغ في مخالفتها للواقع، واقع اللغة وواقع الناس، فأي لذة مع اليأس إلاَّ أن تكون لذة الخضوع للهوان ولذة اجترار الهزيمة والذل وما في مستواهما من علامات السقوط وفقدان الشعور.
هناك ولا شك نفوس عظيمة تعرف كيف تمتص الألم وتسارع إلى تحويله إلى قوة لمواجهة اليأس والانفلات من مخالبه الحادة، أما التلذذ به أو الراحة معه فلا يعدو أن يكون حالة مخالفة لطبيعة الأمور. ويلاحظ أنه في الظروف الغريبة والأقوى في بؤسها من الخيال يمكن لمقولات الشعراء أن تسود وتتحدى الواقع وتصير جزءاً من أوهامه اليومية، وبعض الشعوب التي لا تعرف ذاتها ولا تعي محنتها سرعان ما تتكيف مع اليأس ومع الهوان وتتصالح معهما بعد أن عجزت عن مواجهة العوامل والأسباب المؤدية إلى هذا المصير. وذلك ما يمكن أن يفسر حالة البؤس لدى شعوب كثيرة وباتت في حالة استسلام ويأس تام من مواصلة المقاومة وبعث طاقة التحدي مع الاندفاع بإصرار لمواجهة كل العوائق والمحبطات، وذلك هو ما يثبت الفارق بين الإنسان الحي السوي والجماد.
وما من إنسان إلاَّ وله من مقومات الحياة وإمكانات الإحساس ما يجعله يحافظ ولو على الحد الأدنى من الكرامة والدفاع عن حقه في الوجود.
والمخجل والعيب في الوقت نفسه، أن هناك شعوباً عظيمة ذات أدوار ناصعة في التاريخ وفي صناعة حركته التي لم تتوقف عند منازلة الأعداء واستعادة ما تكون قد خسرته من سيادتها واستقلالها أصابها نوع من التحلل والضعف حتى صارت تدرك ما يحيط بها ، والسؤال المهم هو: كيف سقط عن هذه الشعوب وعيها بماضيها وحاضرها ونسيت وثباتها في وجه الدخلاء والغزاة من جهة، وفي وجه طغاتها وجلاديها من جهة ثانية؟ لأن حدثاً جللاً قد حدث لها أوصلها إلى ما هي عليه، ووضعها في هذا المنخفض من اليأس المريح صارت معه لا تتذكر، ولا تشكو، ولا تئن، وصارت سعيدة وملتذة ببأسها، وصار يأسها ملتذاً بها.
وهي حال غير مسبوقة في التاريخ البشري، فقد شهدت الشعوب كثيراً من الانكسارات والهزائم ، لكنها لم تستسلم ولم ترتح إلى اليأس فقاومت وانتصرت وهزمت أعداءها ، وأثبتت أن الشعوب العظيمة حقاً هي تلك التي لا تعرف الاستسلام ولا تعترف بالهزيمة مهما كانت فادحة.
وينبغي أن نتذكر في هذه اللحظات المريرة التي تمر بها أمتنا أن كل شعب عظيم وحي لا بد أن يتعرض للخسائر والانتكاسات ، وأن ينال منه الأعداء الأقربون والأبعدون لكن ثقته بنفسه لا تتزعزع وإرثه لا يقبل الانكسار والتشظي. وأعود بعد الاعتذار عن هذا الاستطراد الذي أراه ضرورة ملحة في واقعنا للتساؤل عن اليأس المريح وهل هو مغالطة غبية للنفس أن يظن المهزوم بعد إخفاقه المزري أنه قادر على أن يواصل نضاله ضد الهزيمة بمتعة ما، وأن اليأس وقد أدركه ووضعه في الحضيض لا يخلو من راحة ما. إنها المغالطة الغبية ولا شيء غير ذلك. وإذا استطاع الشاعر أن يغالط قراءه بما امتلكته موهبته الفذة من قدرة على الخيال فإن المهزوم اليائس وهو النموذج العربي العام لا يستطيع إلاَّ أن يعيد حساباته ويقرأ واقعه الجديد قراءة واقعية جادة ، وسيجد وهو يقلّب صفحاتها أن خيطاً من النور لا يزال يومض في قلب الظلام.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"