حول السياحة والجيوبوليتيك

03:22 صباحا
قراءة 3 دقائق
غسان العزي
تنشط السياحة، في هذه الأيام، في عدد كبير من مدن العالم التي تزدحم بالنشاطات الترفيهية والسياح من كل الجنسيات والطبقات الاجتماعية. وإذا كان الجانب الترفيهي هو الظاهر في السياحة، إلا أنها أضحت اليوم موضوعاً لإشكاليات عدة اقتصادية، واجتماعية، وحضارية، وجيوبوليتيكية، وغيرها.
ولا ينبغي حصر السياحة بالسياح، فهؤلاء ليسوا سياحاً إلا لفترة محدودة جداً من الزمن. إنها تخص مئات الملايين من الأشخاص الذين يعتاشون منها، ويعملون في مختلف نشاطات قطاع الخدمات، في دول الشمال والجنوب على حد سواء. وهذا ما يتيح لبعض الباحثين إثارة أطروحة «صراع الحضارات» لصموئيل هانتنغتون. لكن السياحة لا تعمل فقط ضمن هذه الثنائية شمال/جنوب، فالوجهات السياحية الأهم، وإن كانت تقبع في أوروبا وأمريكا الشمالية، حيث السياحة الداخلية، أو البينية، نشطة جداً لكن العاملين فيها هم، في جلهم، من المهاجرين، والفقراء على وجه العموم.
عبر حركة الأشخاص والرساميل والأفكار تجسّد السياحة انفتاح الشعوب على بعضها بعضاً، وملايين الأشخاص الذين يسافرون إلى بلدان أجنبية في كل عام هم أشبه بالسفراء لبلادهم. ولكن السياحة من وجهة نظر الجيوبوليتيك هي عنصر خطر وهشاشة، فقد تأثرت كثيراً بالإرهاب. فالجماعات الإرهابية، في مصر وتونس والمغرب، أو إندونيسيا وغيرها، استغلت السياحة، وهي الواجهة المرئية الواضحة للعولمة، كي تضرب المنتجعات السياحية والسياح الغربيين.
وبالنسبة إلى الرهانات الاقتصادية للسياحة فهي كبيرة جداً، إذ إنها تولّد نحو الألف مليار دولار سنوياً، أي ما نسبته عشرة في المئة من المداخيل الكونية (لكن ثلاثة أرباعها تذهب إلى جيوب فاعلين من الشمال)، وتمثل ما نسبته ٨٪ من العمالة على مستوى العالم، (نحو ٢٥٠ مليون وظيفة). هذا القطاع الديناميكي في تطور مستمر، والوجهات السياحية تزداد عدداً وتنوعاً في كل عام.
وبعد انهيار جدار برلين، وانخراط المعسكر الشرقي السابق في التنافس التجاري الدولي، اكتسبت السياحة المزيد من الاهتمام لتقبع في قلب العولمة. ورغم ذلك كان يجب انتظار العام ٢٠١٢ حتى تقتنع جماعة العشرين، بدفع من فرنسا، بأن السياحة تمثل محركاً للنمو الاقتصادي العالمي.
التنمية السياحية والتنمية الاقتصادية تتكاملان، فالقوى الاقتصادية الكبرى في العالم هي في الوقت نفسه قوى سياحية كبرى، أو بصدد التحول إلى ذلك. والسياحة هي أداة «للقوة الذكية».
وهكذا تتطور النظرة إلى السياحة باطراد. ففي ستينات وسبعينات القرن المنصرم كان يُنظر إليها من الزاوية الاقتصادية فحسب، على أساس أنها مجرد قطاع يجلب العملات الصعبة. ثم أضيفت لاحقاً الرؤية السياسية-الثقافية: السياحة تساهم في التقريب بين الشعوب وتصنع السلام، إضافة إلى الثروات. في التسعينات أضيفت النظرة البيئية، وانخرطت المنظمة العالمية للسياحة في إرادة تحويل السياحة العالمية إلى سياحة مستدامة.
ومن وجهة النظر الجيوبوليتيكية ينقسم الباحثون حول ماهية آثار السياحة على المستوى الكوني. هناك أيديولوجيتان متعارضتان تنضمان إلى النقاش العام حول آثار ومفاعيل العولمة.
بالنسبة للمؤسسات الدولية كالمنظمة العالمية للسياحة مثلاً، تعتبر هذه الأخيرة محرك تنمية لا نظير له، إنها دافع أساسي للتقدم الاجتماعي-الاقتصادي، إذ إنها تتيح لدول الجنوب تحويل أصولها الثقافية و/أو الطبيعية إلى عوائد مالية عبر تطوير البنى التحتية لاستقبال الزوار والسياح. وهذا ما ينتج عنه نشاط ربحي قوي في المناطق المعنية، ومن ضمنها الأحياء الأكثر حرماناً وفقراً.
لكن هناك الوجه الآخر للعملة. إذ إن من الباحثين من يرفض «أسطورة السياحة كعامل تقدم»، ويتكلم عن ظاهرة «الكولونية» التي تذكر بالكولونيالية، إذ إن سياح الشمال يأتون إلى الجنوب للإقامة في منتجعات خاصة بهم، ولا يستفيد السكان المحليون إلا من ٥ إلى ٢٥٪ من إنفاقهم، وحتى هذه النسبة على ضآلتها تتبخر نتيجة ارتفاع الأسعار الناجم عن تدفق السياح الأجانب. وهؤلاء يتعاطون بفوقية وبعقلية المستعمر مع السكان المحليين. فضلاً عن الآثار البيئية السلبية الناتجة عن التصحر، وانتشار غابات الباطون على الشطآن، حيث راحت تنتشر الفنادق والمشاريع السياحية لمصلحة الشركات التجارية الخ..
في هذا الإطار الجيوبوليتي نفسه يمكن القول إن السياحة أضحت ساحة لمواجهات وصراعات من أنواع أخرى. فبالنسبة للإرهابيين يصلون خلف قناع الزائر، أو السائح. والعدو يظهر بلبوس السائح الذي يضحى وجه الشر. وهكذا تغدو السياحة نشاطاً ملتبساً، ومتغيراً لم يتم التفكير فيه من «صدام الحضارات» لهانتنغتون. هناك إذاً، سياح معتدون وسياح معتدى عليهم، وهذا ما يخلط القواعد الجيوبوليتيكية للعالم، على ما تقول مجلة هيرودوت المذكورة.
التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

دكتوراه دولة في العلوم السياسية وشغل استاذاً للعلاقات الدولية والعلوم السياسية في الجامعة اللبنانية ومشرفاً على اطروحات الدكتوراه ايضاً .. أستاذ زائر في جامعات عربية وفرنسية.. صاحب مؤلفات ودراسات في الشؤون الدولية باللغتين العربية والفرنسية.

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"