ريجيس دوبريه و«الثورة»

05:14 صباحا
قراءة 4 دقائق
د.غسان العزي

ريجيس دوبريه، هو من أكثر المثقفين الفرنسيين شهرة في العالم، وتترجم كتاباته إلى عدد كبير من اللغات العالمية. خلال تجربته الغنية والطويلة زاوج ما بين التحليل النظري، والممارسة الثورية، فكتب عن الثورة، وانضم إلى تشي غيفارا، قبل أن يعايش ثورات أخرى في أمريكا اللاتينية، ثم يعود منها متخلصاً من الأوهام، ومكتسباً قناعات جديدة نجدها في كتاباته الغزيرة. في كتابه الأخير «من السماء إلى الأرض، الصين والغرب» الذي هو عبارة عن حوار مع فيلسوف صيني شاب (زهاو تينغيانغ)، يقول عن الثورات كلاماً يدعو إلى التأمل والتعمق.
في رأيه أن إحدى مفارقات الثورات أن «محرك التاريخ» الشهير( أي الثورة كما يصفها فلاسفة ومحللون) يؤدي إلى إبطاء سير الأشياء، بعد تسارع كبير، قبل أن يتحول لاحقاً إلى منظومة مكابح ثقيلة. هناك في الثورات مناسبات كثيرة للفرح والبهجة، ولكن أيضاً للحزن والعزاء، وعلى المدى الطويل تتحول البهجة إلى مرارة، وأحياناً كوابيس. «الخمير الحمر» ليسوا قدراً محتوماً لحسن الحظ، ولا «الثورة الثقافية» الماوية، اللتيين يرى فيهما دوبريه أكبر حركة فاشية في القرن العشرين. وفي كل الحالات فإن الهدف المتحقق ليس هو الهدف المتوخى نفسه.
تشيخ الثورات بانتظام، ثم تنقلب على نفسها، وتنتهي الانتفاضات على السلطة بقيام سلطة أقوى وأكثر مركزية من تلك التي كانت قبل. كان هناك نابليون في فرنسا، وستالين في روسيا، وماو في الصين. روح الثورة تنتهي بطاعة إكراهية، وتغدو العفوية بيروقراطية، والإلحاد أرثوذكسية. وهذا ليس بجديد، إذ سبق وكتب فكتور هوغو عن ذلك عشية كومونة باريس، العام 1848، فهذه الانتفاضة الباريسية الكبرى حملت إلى السلطة، وهذه مفارقة جديدة، نابليون الثالث، وهو إمبراطوري جداً، وأحمق بالمناسبة. «البؤس يقود الشعوب إلى الثورات، والثورة تعيد الشعب إلى البؤس»، هذا ما قاله فكتور هوغو الذي يستشهد به دوبريه. إنها حلقة تراجيدية كوميدية مستمرة.
لكن دوبريه يعود، وبنبرة أقل تشاؤمية هذه المرة، للتأكيد أن الثورات الكبرى (الأمريكية والفرنسية والروسية والصينية والفيتنامية..) تشترك في شيء واحد على الأقل: شكلت أمة، أو دولة أمة لم تكن موجودة من ذي قبل. هناك شيء مشترك آخر: إنها تأكل أولادها، ويقتل أبطالها بعضهم بعضاً، ويبقى استخدام العنف المدمر على المدى الأطول. ولكن بعد أن ينتهي حمام الدم نشهد بزوغ دولة من هذه الفوضى. والإنجاز الأكبر أن تنجح هذه الدولة في فدرلة الإثنيات والثقافات المختلفة فتغدو دولة أمة، كما حدث لفرنسا في نهاية القرن الثامن عشر، ولو ليس من دون آلام وحروب أهلية صغيرة.
ويتابع دوبريه أن الثورات عموماً ما تصف نفسها بالعالمية، سواء تعلق الأمر بالجمهورية الكونية، كما في فرنسا، أو البروليتاريا العالمية في الصين وروسيا، لكنها تنتهي بتقوية الشعور الوطني الضيق. وحتى لو رفضنا هذه الفكرة الحتمية للعودة الأبدية، التي يقول بها من يسمّون بالرجعيين، فلا بد من الملاحظة بأن عناصر الاستمرارية تغلب دوماً على عناصر القطيعة. فالثورة الفرنسية مثلاً التي قطعت رأس الملك أنهت عملها الألفي بملكية مركزية. الذهنيات الجماعية التاريخية، أو لنقل الطبائع الوطنية، حياتها أطول مما يعتقد أصحاب أطروحة القطيعة الذين يؤمنون بأن حركة الجماهير التي يجري قيادتها من بعد، وبأوامر تبسيطية،تستطيع تدمير نفوذ الماضي على الحاضر.
الثورات التكنولوجية فقط، وليس السياسية، في رأي دوبريه، تشذ عن هذه القاعدة، لأن لا عودة فيها البتة إلى الوراء. لن نعود إلى الشمعة بعد أن اخترعنا الكهرباء، ولا إلى السفن الشراعية بعد أن ابتكرنا المحركات، كما نعود إلى الدين الأرثوذكسي بعد ثورة أكتوبر، أو إلى كونفوشيوس بعد الثورة الماوية. الإنترنت غيّر وجه العالم بشكل أكثر جديةً وجذريةً مما فعل ماركس، أو لينين، أو ماو. هنا تقبع محركات التاريخ الحقيقية الضامنة الوحيدة لتقدم لا رجعة فيه إلى الوراء (سواء كان جيداً أو سيئاً) والذي يتجاهله المثقفون والناشطون الذين ينظرون بفوقية إلى المهندسين. الثورات الأكثر تأثيراً في التاريخ هي تلك التي لم يحركها، أو يعلنها، أو يبرمجها إنسان، هي تلك التي لا قائد لها ولاعَلَم، والتي تقدمت حثيثاً من دون ضجة على أصابع أرجلها، وفي سرية، أي من دون كشف هويتها: المكبس، التيار الكهربائي، الشريحة الرقمية..إلخ. من اخترع الكهرباء؟
ويزيد دوبريه بالقول أنه على يسار اليسار الأوروبي الذي يسمي نفسه «سوسيال ديمقراطي»، أضحت الثورات الأخيرة من دون لاعبين ومن دون نصوص، أو جمهور، أو مسرح. في مجتمعاتنا ما بعد الصناعية هناك ساخطون ومضربون ومحتجون، ولكن نادرون جداً من يتكلمون عن «القيام بثورة»، كما في مايو/أيار 1968 التي كانت من هذا المنظور، غناء بجع الآمال الثورية. الكلمة السحرية التي حلت محل «ثورة» هي «ديمقراطية»، فلكل حقبة تاريخية مفرداتها الخاصة.
إنها ما يحاول الغرب تصديره من دون تحديد دقيق لمعنى المفردة التي تحمل معاني عدة، واستثناءات كثيرة. وكما أن «ثورة» غطت بهيبتها الكثير من الأنظمة الشمولية والتسلطية، فإن «ديمقراطية» زينت أنظمة أوليغارشية، أو بلوتوقراطية، حيث المال هو السيد. ومن مجتمع مستعبد للسوق، ومجتمع مستتبع للحزب الواحد، فإن الخيار لا يبعث على البهجة.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

دكتوراه دولة في العلوم السياسية وشغل استاذاً للعلاقات الدولية والعلوم السياسية في الجامعة اللبنانية ومشرفاً على اطروحات الدكتوراه ايضاً .. أستاذ زائر في جامعات عربية وفرنسية.. صاحب مؤلفات ودراسات في الشؤون الدولية باللغتين العربية والفرنسية.

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"