سيناريو الرعب النووي وخيار «شمشوم»

04:08 صباحا
قراءة 3 دقائق
د. عمر عبد العزيز

بالترافق مع تباشير نهايات الحرب الباردة، أدرك الخبراء الاستراتيجيون في الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي، خطورة استمرار سباق التسلّح وتكديس الأسلحة النووية في البلدين الكبيرين، ومغزى التمدد الأفقي في انتشار أسلحة الدمار الشامل، وكيف أن توريط الحلفاء في الانخراط في هذا السباق المحموم، من شأنه أن يخرج هذه الأسلحة عن السيطرة.
يومئذ تلخَّص سيناريو الضربة النووية الافتراضية الأولى في دمار شامل للكرة الأرضيّة، باعتبار أن كمية الرؤوس النووية التي كانت مرصودة لدى الاتحاد السوفييتي والولايات المتحدة، تكفي لتفجير الكرة الأرضيّة لعدة مرات، حيث إن أنظمة الإنذار المُبكِّر لدى البلدين تمنحان ضباط الصوامع النووية الضوء الأخضر في إطلاق الرؤوس النووية كافة، وخروج رأس واحد فقط ولو بالخطأ، سيجعل الآخر تحت مرمى الإبادة الشاملة، وسيمنحه خيار «شمشوم» في إطلاق صواريخه، وإذا ما حدث ذلك فعلاً، فإن كامل الترسانة النووية العالمية ستنطلق لتحرق كبريات المدن العالمية، ثم تواصل رعبها الصاعد في البحار، حيث تغلي مياهها لتموت فيها الكائنات البحرية، ثم تفيض مياه الموت تلك على اليابسة، فيشهد العالم أكبر تسونامي يطال مدن السواحل، ثم تنطلق سحابة كبرى من الإشعاعات النووية القاتلة لتتكفل بتسميم الأنهار والآبار، وقتل البشر، وتدمير البيئة الحيوية المعروفة، وبالترافق معها تتغطَّى الكرة الأرضية بسحابة غليظة داكنة، ليبدأ الشتاء النووي، الذي تصل درجة البرودة فيه إلى ناقص 150 درجة، ما يعني موت بقية الكائنات التي قد ينجو منها بعض أنواع البكتيريا المجهرية غير المعروفة، بحسب بعض العلماء.
إدراك هذا السيناريو الافتراضي في ذلك الحين، منح السوفييت والأمريكيين شجاعة المبادرة للوصول إلى سلسلة من بروتوكولات الحد من السلاح النووي، أثناء المفاوضات الماراثونية التي جرت في جنيف، على عهد الرئيس السوفييتي بريجينيف والرئيس الأمريكي الحكيم جيمي كارتر، وما زال مؤرخو تلك الوقائع يسجلون لبريجينيف شجاعة المبادرة بتقديم سلسلة من التنازلات الجوهرية، على درب تقليص وتفكيك الأسلحة النووية السوفييتية، وعندما جاء الرئيس جورباتشوف استمر في عقيدة الاستشعار بأن البشرية تُبحر في قارب واحد، ولا بد أن يجتاز البحار العاتية لسباق التسلّح، غير أن إدارات ما بعد الألفية الجديدة في الولايات المتحدة اعتبرت تلك التنازلات السوفييتية، بمثابة انتصار للنموذج الأمريكي، وهزيمة للنموذج السوفييتي، وهو الأمر الذي مهد لعودة روسيا القيصرية بثوبها البوتيني الماثل، وخوارق تقدمها الاستراتيجي في أسلحة الدمار الشامل، بما فيها منظومة الأسلحة النووية، بإقرار وشهادة المراقبين الاستراتيجيين.
يتلخّص المشهد النووي القائم اليوم في تزايد الدول النووية، والتستّر على البعض منها، وخاصة «إسرائيل»، غير المصنفة في الوكالة الدولية للطاقة الذرية ضمن الدول النووية.
اليوم وبعد مرور ثلاثة عقود على نهاية الحرب الباردة، ما زال الخطر ماثلاً ضمن متوالية عددية صاعدة، فقد تمدد انتشار السلاح النووي، وكذا أسلحة الدمار الشامل بأنواعها الكيميائية والبيولوجية والصوتية، ولا تُخفي بعض الدول النووية الناشئة اعتدادها بطاقة الدمار، وخاصة كوريا الشمالية التي تنشر عقيدة الرعب بوصفه الطريق الوحيد للحفاظ على الذات الوطنية وردع الأعداء المحتملين، وقبل حين من الزمن، وتحديداً مع نهايات عهد يلتسين في روسيا، كان الجنرال الروسي المخضرم، وافر الحظ في أن يكون رئيساً لروسيا آنئذ الجنرال (ليبيد)، يدلي بتصريحات مريبة حول اختفاء عشرات الشنط النووية من ترسانة الجيش الروسي، الأمر الذي أرعب الاستراتيجيين العليمين في موسكو وواشنطن، وصولاً إلى الخرس المطبق حول هذا الموضوع، فقد مات ليبيد جراء اصطدام مروحيّته بخطوط الضغط الكهربائي العالي في منطقة سيبيريا الروسية، ومعه ماتت الشائعات وتلاشت.
تؤكد الشواهد العابرة التي أومأنا إليها سابقاً، حقيقة مركزية لا بديل لها، وتتلخص هذه الحقيقة في أن السيطرة على الرعب النووي تتقلّص يوماً بعد يوم، بالنظر لتسارع أنظمة الإنذار المُبكِّر من جهة، وقابلية إنتاج هذه الأسلحة الجهنمية أكثر من ذي قبل.. كما أن انتشار اقتصاد المعرفة المُرقْمنْ يمنح الشريرين فرصة نادرة لتعميم الشر، بقدر كونه منحة طيبة لصالح الخير إن تم استخدامها على هذا الوجه.
وتزداد المسألة فداحة في ظل انتشار الخطاب الأيديولوجي الديني، والنزعات القومية الشوفينية، والأوهام السلالية العرقية، والاسترجاعات المنهجية لمرويات الرعب التاريخية، المدونة في مسطورات الملل والنحل الناظرة لحتمية يوم الدينونة القادم.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"