فرنسا.. أزمة متعددة الأبعاد

04:38 صباحا
قراءة 3 دقائق
د. حياة الحويك عطية

هي أزمة متعددة الأبعاد، ولا يمكن للأزمات المصيرية التي تمر بها المجتمعات والشعوب، إلا أن تكون متعددة الأبعاد. هي أزمة العولمة التي قيل لنا إنها قدر العالم إلى ما لا نهاية، ووصف من رفضها بأنه أصبح خارج التاريخ ولن يدخله أبداً، إلى أن جاءت الولايات المتحدة، مؤسسة العولمة وسيّدتها، لتنقضها بانتخاب رئيس يبني سياسته على الرأسمالية الحمائية. فتتحول الصين إلى المدافع عن العولمة في دافوس الأخير.
الولايات المتحدة دولة الاقتراح للعالم الغربي، وعليه فإن أوروبا المنضوية تحت لواء العولمة وجدت نفسها، مع خروج أمريكا من العولمة، في مازق وضياع متخبط. الترامبية لا تتسع لحلفاء مستقلين أنداد، وإنما لحلفاء تابعين، وأمريكا لن تتكفل بأية مصاريف أو إعفاءات لحماية هؤلاء. ولذا على القارة العجوز أن تتحمل ضرائب الحديد والصلب، وأن ترفع مساهمتها في «الأطلسي»، وأن تنصاع للعقوبات على روسيا وعلى الصين وإيران، مهما كلفها ذلك من خسائر توقع اقتصادها في الأرض.
فرنسا التي جرّها ساركوزي - وهو صنيعة اللوبي الأطلسي اليهودي - إلى حضن العولمة النيوليبرالية بسلسلة قوانين وقرارات اتخذها، تجد نفسها في مقدّمة الدول المأزومة. فالسياسات الساركوزية استمرت مع هولاند، لتبرهن أن لا فارق بين اشتراكي الوسط ويمين الوسط، عندما تصبح التبعية الأمريكية هي المعيار. غير أن هذه السياسات لا تنسجم مع طبيعة النظام في الجمهورية الخامسة، الذي أقام مصالحة ثابتة بين اقتصاد رأسمالي وبين ضمانات اجتماعية قلّما يتمتع بمثلها شعب آخر. لا تنسجم لأن طبيعة هذا النظام أن يسهم الأغنياء بما يدفعونه من ضرائب في تأمين الضمانات التي تقنع الطبقتين المتوسطة والفقيرة بالرأسمالية القائمة. في حين تحوّل الأمر منذ ساركوزي إلى ريجانية ( نسبة إلى مبادئ ريجان النيوليبرالية )، تطلب من الطبقتين المذكورتين تمويل مصاريف التأمين ومصاريف تحرير الأغنياء وإعفائهم من الأعباء. هذه الإشكالية الكبيرة ورثها إيمانويل ماكرون، لا ليخفف من وقعها الاجتماعي، بل ليزيد من تفاقمها. فهو أساساً رجل لم يأت من رحم حزب تقليدي قوي، كما كان حال جميع أسلافه، وإنما هو صنيعة البنوك والشركات بدءاً من روتشيلد وانتهاء بكامل اللوبي. وعليه فهو يحمل ديناً ثقيلاً لهذه القوى، وهو ما دفعه إلى استصدار تشريعات وقوانين لا تأخذ في الاعتبار إلا مصلحتها على حساب مصالح الناس. مما يذكّر بمانشيت شهرية «لوموند ديبلوماتيك» غداة انتخابه: «صنعوه ليخدمهم». صحيح أن حزباً اخترع له خلال الحملة الانتخابية نفسها، اسم «فرنسا إلى الأمام»، ولكن ذلك لم يكن إلا غطاء شكلياً لدور اللوبيات التي صنعت الرئيس.
أسباب داخلية قد تبدو كافية لانفجار الوضع. ولكن نظرة أكثر تعمقاً وإحاطة بالإطار الإقليمي والعالمي، تفضي إلى واقع إضافي. فثمة صراع تاريخي قائم منذ الحرب العالمية الثانية حول أوروبا.
الولايات المتحدة لم تقبل يوماً إلا بأوروبا ملحقة، وزعماء أوروبا التاريخيون وعلى رأسهم الجنرال ديجول كانوا يسعون إلى الاستقلالية الأوروبية التي لا تتحقق إلا عبر الاتحاد الأوروبي: الكتلة المقابلة. هذا الصراع كان قائماً داخل أوروبا نفسها بل داخل كل من دولها وكل من أحزابها.
ماكرون في ظل العولمة لم يكن رجل الاستقلالية لأنه رجل الشركات. ولكن في ظل انفكاك العولمة، يجد تضارباً فاقعاً بين مصالح فرنسا دولة وشركات وبين مصالح الترامبية، (وأبرز الأمثلة، إجبار إيرباص على إلغاء صفقتها مع إيران، وإجبار توتال على الخروج من أكبر حقل هناك، وغير ذلك الكثير). مثل ماكرون أنجيلا ميركل، وبعض الزعماء الأوروبيين الآخرين. من هنا تعمل واشنطن على تفكيك الاتحاد الأوروبي بدءاً من خروج بريطانيا.
هكذا تلتقي ضد ماكرون، الأزمة الداخلية مع الضغوط الخارجية.
الأزمة الداخلية التي خلقتها اقتصادياً السياسات النيوليبرالية، وسياسياً إحساس شريحة كبيرة من الفرنسيين بذل التبعية، ومصادرة القرار الشعبي وتراجع دور الأحزاب، إضافة إلى فشل السياسات الخارجية. واجتماعياً أزمة مزدوجة: اهتزاز العدالة الاجتماعية المكتسبة، وأزمة الهوية والاندماج في ظل استيعاب البلاد على ما يزيد على ستة ملايين مهاجر.
والضغوط الخارجية التي تحركها القوى التي تريد إعادة سياسة ماكرون ومن مثله إلى بيت الطاعة الأمريكي، وتفعيل الضغوط بحيث يندفع «السياديون» باتجاه الانفكاك من أوروبا الموحدة، عبر الإيحاء للناس بأنها سبب أزمتهم.
يظل دور اللوبي اليهودي المؤيد ل «إسرائيل»، الذي يلعب في فرنسا دوراً أكبر من ذاك الذي يلعبه في أمريكا، ويفيد من جميع الفئات والتحولات لما يصب في مصلحة «إسرائيل». ولذلك سمعنا الإعلام المرتهن له يهوّل بشعارات لا سامية خلال التظاهرات، والواقع أنه من الطبيعي أن تتجه الشعارات إلى اللوبي اليهودي الذي يسيطر على البنوك والشركات، وليس في هذا أي دافع لا سامي بالمعنى العصري.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"