ساعدونا على أن نساعدكم

03:27 صباحا
قراءة 4 دقائق
د. غسان العزي

لا يزال الكثير من اللبنانيين ينظرون إلى فرنسا على أنها «الأم الحنون» لبلدهم ليس فقط لأن الجنرال الفرنسي غورو هو الذي استولد «لبنان الكبير» في بداية سبتمبر/أيلول من عام 1920؛ بل لأسباب كثيرة أخرى تاريخية وثقافية وسياسية، تمتد على مساحة قرنين من الزمن؛ لكن «الصيغة اللبنانية» المولودة مع الاستقلال في عام 1943 برعاية فرنسية، والقائمة على تقاسم السلطات السياسية والأمنية والعسكرية والمالية وغيرها ما بين الطوائف «الدينية- السياسية»، كانت وما تزال سبب مصائب هذا البلد الذي لم يعرف الاستقرار الحقيقي منذ ذلك الوقت إلا لفترات جد وجيزة. هذه الطوائف استجلبت كل أنواع التدخلات الخارجية في شؤون البلد، الذي أضحى ساحة لصراعات الآخرين، وبات ينتقل من حرب أهلية معلنة أو مضمرة إلى أخرى، ومن أزمة إلى أزمة.
الأزمة التي يعيشها لبنان في الذكرى المئوية الأولى لولادته هي الأخطر في تاريخه. الأرقام والمؤشرات المالية والاقتصادية والاجتماعية المتعلقة بالتضخم والبطالة والفقر والعجز الخزيني وسعر الليرة والميزان التجاري وغيرها مرعبة، وتنذر بانهيار الكيان.
هذه الأزمة استدعت تدخلاً فرنسياً، بعد رفض كل الدول الصديقة للبنان مد يد العون له، وهو رفض يقوم على سببين أساسيين؛ أولهما «حزب الله»، وثانيهما فساد الطبقة السياسية الحاكمة الذي وصل إلى مستويات غير مسبوقة في تاريخ الدول.
لقد سيطرت هذه الطبقة على موارد الدولة منذ أكثر من عقدين كاملين؛ عبر تنظيم «هرم بونزي» هائل في المالية العامة والاقتصاد، وأودى تحالفها مع المصارف والمصرف المركزي بالبلد إلى أتون الإفلاس. وهي تبدي ممانعة حيال الإصلاحات الضرورية المطلوبة إلى درجة أن القناعة باتت سائدة في أوساط المراقبين والمحللين في لبنان والخارج بأن هذه الطبقة تنظر إلى الإصلاح كأنه المنشار الذي يقطع غصن شجرة السلطة الذي تتربع عليه منذ عقود طويلة، وما تزال تتمسك به على حساب الوطن والشعب والكيان.
وزير الخارجية الفرنسي جان ايف لودريان عبّر عن هذه الحقيقة بمفردات واضحة إلى درجة الخروج عن الأعراف الدبلوماسية في بعض الأحيان. مهمته في بيروت كانت أقرب إلى «تأنيب» وتنبيه القادة اللبنانيين منها إلى طرح برنامج دعم أو مساعدة كما اعتادوا في الأزمات السابقة. في هذا الوقت كانت الصحف الفرنسية تذكّر بأن لبنان تلقى الكثير والكثير من المساعدات سواء من فرنسا أو الاتحاد الأوروبي أو المؤسسات والصناديق الدولية عبر برامج (مثل باريس 1و2و3 إلخ.) أو من دونها، وكلها ذهبت هباءً منثوراً.
طالب لودريان اللبنانيين الذين يداهمهم الوقت بالسير أخيراً في طريق الإصلاحات «التي ننتظرها منذ وقت طويل» ملاحظاً أن «الأمور لا تتحرك كما هو مطلوب» وعلى سبيل المثال في قطاع الكهرباء الذي يكبد خزينة الدولة خسائر فادحة «أستطيع أن أقول بوضوح أن ما تم القيام به إلى اليوم غير مشجع على الإطلاق»، مشدداً على أنه «من غير أوهام ليس هناك من بدائل عن برنامج صندوق النقد الدولي».
والمعروف أن مفاوضات الحكومة اللبنانية مع هذا الصندوق تسير ببطء شديد؛ بسبب الخلافات بين المفاوضين اللبنانيين حول أرقام الخسائر المالية التي تكبدتها الدولة، والفروق في تقدير هذه الخسائر بين أرقام الحكومة وأرقام المصرف المركزي، تصل إلى مئات المليارات من الليرة اللبنانية، والتي بالمناسبة خسرت نحو الثمانين في المئة من قيمتها حيال الدولار الأمريكي في غضون أشهر ثلاثة.
وبدا لودريان وكأنه يتحدث ليس فقط باسم بلاده؛ بل باسم المجموعة الدولية. صحيح أن فرنسا تملك مقاربة للوضعين اللبناني والشرق الأوسطي مختلفة كثيراً عن المقاربة الأمريكية؛ لكنها لا تستطيع التحرك بمفردها من دون غطاء أمريكي أو غض نظر على الأقل؛ لأنها إن فعلت؛ فحراكها سيبقى من دون نتيجة تذكر. الأمريكيون الذين يضغطون بشدة على ايران وحليفها اللبناني «حزب الله» لا مصلحة لهم في انهيار لبنان بالكامل؛ لأن لهم فيه حلفاء؛ ولأن مثل هذا الانهيار قد يدفع البلد إلى أحضان إيران والصين وروسيا في وقت يروج فيه «حزب الله» لمقولة «التوجه شرقاً».
في هذا المجال تريد باريس أن تقدم جرعة أمل بديلاً عن اليأس من الغرب الناتج عن السياسات الترامبية. كذلك تريد أن تحمي الفرانكوفونية، التي تعاني تراجعاً على المستوى العالمي لمصلحة الانكلوفونية. من هنا المساعدات العاجلة التي وعدت بتقديمها للمدارس والجامعات المسيحية والفرانكفونية (15 مليون يورو) والمساعدات الإنسانية ولمواجهة كورونا (50 مليون يورو). لا ننسى أن فرنسا نفسها تعاني أزمة اقتصادية شديدة الوطأة؛ بسبب كورونا، وأن الاتحاد الأوروبي توصل بصعوية إلى إقرار برنامج نهوض اقتصادي بعد كورونا في قمته الأخيرة في بروكسل قبل أيام.
في مجال آخر، من المعروف أن فرنسا لعبت دوراً كبيراً في استصدار القرار 1701 وفي تشكيل اليونيفيل، واستمرت في لعب دور في التجديد لهذه القوة الأممية والتي يريد اليوم الرئيس ترامب تعديل مهامها، ويهدد بعدم التجديد لها. وقد وعدت باريس بالاستمرار في دورها هذا الأمر الذي تنظر إليه بيروت بارتياح شديد.
على مسامع كل الذين التقاهم كرر الرقم الثاني في الحكومة الفرنسية ما سبق وقاله أمام البرلمان الفرنسي عشية الزيارة: «ساعدونا على مساعدتكم». فهل كررها أمام آذان صماء؟

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

دكتوراه دولة في العلوم السياسية وشغل استاذاً للعلاقات الدولية والعلوم السياسية في الجامعة اللبنانية ومشرفاً على اطروحات الدكتوراه ايضاً .. أستاذ زائر في جامعات عربية وفرنسية.. صاحب مؤلفات ودراسات في الشؤون الدولية باللغتين العربية والفرنسية.

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"