ماكرون «اللبناني»

05:41 صباحا
قراءة 3 دقائق
د. غسان العزي

فشلت فاجعة بيروت في توحيد الطبقة السياسية اللبنانية التي لم تعتد على الاتحاد إلا للمحاصصة وتقاسم المنافع، فتقاذف الاتهامات ومحاولات الاستثمار السياسي للكارثة تكشف مجدداً عن مستوى الفساد وقلة المسؤولية التي وصلت إليها هذه الطبقة. هذا في وقت نجحت فيه الفاجعة في توحيد أعداء إقليميين ودوليين. فمن واشنطن وطهران مروراً بالإمارات والرياض والكويت وقطر وأنقره وصولاً إلى كندا وغيرها سارع الجميع إلى مد يد العون للعاصمة التي تستغيث. في هذا الإطار أرادت فرنسا التميز عبر مسارعة رئيسها للسفر إلى بيروت في زيارة خاطفة حملت الكثير من المعاني.
اللافت أنه لم يجرؤ أي مسؤول سياسي لبناني على النزول إلى الشارع لتفقد الأضرار لخوفه من نقمة الناس. فقط وزيرة العدل، وهي حديثة العهد بالسياسة، تجرأت وذهبت لتفقد شارع الجميزة المنكوب فووجهت بمتظاهرين طردوها تحت وابل من الشتائم. الرئيس ماكرون توجه من المطار مباشرة إلى مكان الكارثة فاستقبله الناس بالترحاب وجاؤوا يشكون إليه ظلم الحكام الفاسدين ويطالبون بعدم دفع المساعدات إليهم لأنهم سارقون. وطلب منه بعضهم عودة الانتداب الفرنسي، تعبيراً عن اليأس من الطبقة الحاكمة الفاسدة. وكان خمسون ألفاً من اللبنانيين قد وقعوا على عريضة تطالب بعودة هذا الانتداب. طبعاً من الناحية العملية والقانونية من المستحيل تحقيق هذا الأمر ولكن ينبغي قراءته من زاوية رمزية تعبيرية.
تعمد ماكرون إصدار التعبيرات الرمزية. فهو مثلاً لم يصافح الرؤساء اللبنانيين الثلاثة كسلوك وقائي من كورونا، لكنه خلال جولته التفقدية عانق سيدة تقوم بكنس الشارع. ويصعب على أي زائر أجنبي أن يكون أكثر وضوحاً منه عندما توجه بعبارات شديدة الوضوح والقساوة إلى الحكام اللبنانيين مؤكداً أنه لن يوقع لهم على شيك أبيض وأن المساعدات سوف تتوجه مباشرة إلى المحتاجين دون المرور بالقنوات الرسمية، وهذه صفعة يتلقاها هؤلاء الذين اعتادوا على إهانات اللبنانيين لهم عبر الإعلام و التواصل الاجتماعي، والتي يديرون لها الآذان الصماء.
حاول ماكرون أن يلزم جانب التوازن وعدم الوقوع في أي فخ دبلوماسي أو سياسي. اجتماعه مع ممثلي الكتل البرلمانية، ومنهم رئيس كتلة حزب الله، دل على براغماتية واضحة، فمن جهة يقدم الدليل على استقلاليته عن السياسات الأمريكية ومن جهة أخرى يقول للبنانيين بأنهم هم الذين انتخبوا ممثليهم ومنهم الحزب الموجود في البرلمان والحكومة وليس من الحكمة تجاهل الأمر إذا شئنا البحث عن حل ذي مصداقية. حمّل ماكرون المسؤولية التاريخية للقادة المحليين ولنظام مختطف من قبل الفساد المنظم، وهذا كلام يقترب من الإهانة لهؤلاء لكنه شدد على أنهم منتخبون وأن لبنان بلد حر سيد مستقل لا تنوي فرنسا التدخل في شؤونه الداخلية ولكن فقط الرعاية والمساعدة على إيجاد «ميثاق سياسي جديد» أي التأسيس لنظام سياسي جدي وذلك من دون مسايرة ولا تدخل.
من السذاجة بمكان الاعتقاد بأن قرار فرنسا الإمساك بالملف اللبناني فرنسي محض من دون موافقة الأمريكيين. كان ماكرون واثقاً من قدرته على ممارسة تأثير دولي. ومن المؤكد أن دعوته السلطة اللبنانية لإجراء تغيير عميق في أدائها لإخراج البلاد من الانهيار الاقتصادي والانقسامات الطائفية ولإيجاد ميثاق سياسي جديد لن تلقى آذاناً صاغية لأن هذه السلطة اعتادت على هذا الأداء ولا تنوي تغيير النظام السياسي الذي وصلت بفضله إلى الحكم. لكنها لن تمنعه من دعم تحقيق دولي مفتوح وشفاف للحيلولة دون إخفاء الأمور أولاً ولمنع التشكيك ثانياً؛ ذلك أن هناك ضحايا فرنسيين وأوروبيين وقعوا بفعل الانفجار الهائل. لكن من الناحية المقابلة إذا لم تبادر السلطة للإصلاح من الآن حتى الأول من سبتمبر/أيلول المقبل فإن ماكرون وإن ألمح إلى «عدم استبعاد شيء» من قبيل معاقبة المسؤولين الذين يعرقلون الإصلاحات إلا أنه أضاف أنه «في بعض الظروف العقوبات ليست الأكثر نجاعة. أعتقد أن الحل الأنجع هو إعادة إدخال الجميع في آلية حل الأزمة».
في ذكرى المئوية الأولى لولادة «لبنان الكبير» في بداية سبتمبر/أيلول المقبل سيعود ماكرون إلى بيروت بعد إجراء اتصالات دولية وعربية مكثفة، ليتبين له على الأرجح أن الحكومة اللبنانية لم تتقدم خطوة واحدة في طريق الإصلاح. فهل يبدأ عندها مسار تدويل الأزمة اللبنانية؟

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

دكتوراه دولة في العلوم السياسية وشغل استاذاً للعلاقات الدولية والعلوم السياسية في الجامعة اللبنانية ومشرفاً على اطروحات الدكتوراه ايضاً .. أستاذ زائر في جامعات عربية وفرنسية.. صاحب مؤلفات ودراسات في الشؤون الدولية باللغتين العربية والفرنسية.

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"