الخصوصية في اللغة فقط

02:58 صباحا
قراءة 5 دقائق

تحقيق: نجاة الفارس

بماذا يتأثر الأدب العربي في الوقت الراهن؟ لقد تأثر في فترة سابقة بالأدب الروسي، ثم الواقعية السحرية اللاتينية. ويؤكد عدد من الكتاب في هذا التحقيق أن الأدب، بمفهومه الإنساني الشمولي، هو الأكثر قدرة على الامتزاج بالنفس البشرية، والتأثير فيها، واصطباغها بصبغته، واندغامها في تداعياته، على الرغم من الخصوصيات التي يمتاز بها أدب أمة عن أخرى، لكن العولمة ساهمت على تشكّل أدب عالمي مواز لا خصوصية فيه إلا للغة، وقد ساعد على ذلك سرعة الترجمة من مختلف الآداب الشرقية، والغربية.

ويضيفون أن كل عمل أدبي هو انعكاس وتجسيد لإيقاع العصر، وهذا زمن التفكيك كانعكاس واضح للواقع العربي المهشم، فالروايات الجديدة في أغلبها مزيج من مذاهب مختلفة تصب في بوتقة الغرائبية، والإدهاش، كما نجد سمة طاغية وهي الكتابات عن التاريخ والصراعات السياسية، وقد يكون هذا ما يعبر عنه الواقع، وبالتأكيد هناك محاولات فردية للخروج من هذه النمطية وهي محاولات ضئيلة، ولكنها بدايات لما يرجى أن يحدث نقلة في المكتبة العربية.

يقول الدكتور محمد عيسى الحوراني، ناقد وأكاديمي في جامعة العين: الأدب بمفهومه الإنساني الأشمل هو الأكثر قدرة على الامتزاج بالنفس البشرية، والتأثير فيها، ولهذا، فهو الأسرع انتشاراً من بين كل المعارف، ولا ننسى أثر الأدب الإغريقي القديم في الآداب الإنسانية، ومنها أدبنا، كما لا ننسى أثر الأدب العربي في العصر العباسي تحديداً، في الآداب العالمية، ولا سيما الأوروبية منها، ومع بدايات العصر الحديث بدأ العرب بالانفتاح على الآخر، وبدأت موجات الأدب وحراكاته تهب من الغرب تحديداً، ونظراً لسهولة الاتصال والتواصل، انطلق تأثير المدارس الأدبية والمناهج النقدية الغربية في أدبنا العربي، ونقده، والذي حاول بدوره المواءمة بين الوافدن والأصيل، فظهرت المدرسة الاتباعية العربية على غرار المدرسة الكلاسيكية الغربية، كما ظهرت الرومانسية والواقعية والرمزية من خلال انعكاس تأثير المعطى الغربي على الأدب العربي، وتلقي الأدباء العرب لمختلف التيارات الأدبية والنقدية الوافدة.

وفي الوقت الراهن، وأمام التداخلات غير المسبوقة بين الشعوب، وأمام منظومة العولمة التي دخلت إلى كل بيت، وأمام شبكات الاتصال والتواصل، أصبح الأدب العالمي أكثر تداخلاً وتشابكاً بين الأمم، ونحن بدورنا - ولا سيما أننا أمة تعظم الأدب وتعلي شأنه- كنا الأكثر تأثراً بما يمكن أن نسميه الصرعات الأدبية في الغرب، وأصبح لدينا أدب متشابك وهجين، لا نستطيع تمييزه من حيث الشكل والمضمون عن الآداب الأخرى إلا من خلال اللغة الخاصة، وكل هذا أدى إلى ظهور الحركة التوفيقية التي أخذت تؤصل كل ما يؤخذ عن الغرب تأصيلاً عربياً، وإذا كانت المدارس الشمولية الغربية كالبنيوية، والأسلوبية، والتأويلية، والسيميائية، والحداثة، وما بعد الحداثة، إذا كان كل ذلك ابتدأ بالغرب، إلا أنه لم يعد غربياً خالصاً، فقد ساهمت العولمة على تشكل أدب عالمي مواز لا خصوصية فيه إلا للغة.

زمن التفكيك

يؤكد الشاعر والروائي عبد الحميد القائد، أن كل كتاب يتخذ طابع عصره، وكل عمل أدبي أيضا هو انعكاس وتجسيد لايقاع العصر، فالرواية العربية نشأت متأثرة بالواقعية التي ازدهرت في أوروبا بين القرنين الثامن عشر، والتاسع عشر، وبدايات القرن العشرين، فالروايات العملاقة الخالدة على مر الزمان في أوروبا، وروسيا، كان معظمها إن لم نقل كلها يتبع المذهب الواقعي، فكيف يمكننا أن نتخيل تاريخ الرواية من دون أن نتذكر رواية الحرب والسلام لتولستوي، أو رواية «غادة الكاميليا» لالكسندر دوماس، أو رواية «البؤساء» لفيكتور هيجو، أو رواية «وداعا للسلاح» لهمنجواي، وتعد الواقعية في الرواية العربية أسلوباً أساسياً راسخاً يميز الأدب العربي وتطوره في العصر الحديث، فالاتجاه الواقعي في الرواية هو أول اتجاه غربي يقلده ويمارسه الروائيون العرب وعياً بأسسه النظرية، وقيمه الفنية، ومدلوله الاجتماعي، وكان نجيب محفوظ رائد الرواية الواقعية العربية من دون منازع، بل ومن المجددين فيها، مستفيداً من خصوصية المجتمع العربي، وتتمثل آفاق التجديد لدى نجيب في روايته «ثرثرة على النيل»، و«ميرامار»، حيث انطلق مجدداً خارجاً من أسر الواقعية القديمة، وبعد جيل نجيب بدأت الواقعية الاشتراكية تسود نسبياً، إلى جانب الواقعية النقدية، مع بروز جيل عبدالرحمن الشرقاوي، ويوسف إدريس، وفتحي غانم، الذين حاولوا منافسة جيل نجيب محفوظ، ومضوا إلى آفاق مغايرة، وكان للأدب اللاتيني الذي انتشر على يد الكولومبي جابريل جارسيا ماركيز، والبرازيلي جورج أمادو، على سبيل المثال، وقع السحر في عالم الرواية عالمياً، وهي الواقعية الجديدة الممزوجة بالكثير من العوالم الغريبة.

ومثلما تطور الشعر العربي من العمودي، إلى شعر التفعيلة، إلى قصيدة النثر، والهايكو، والومضة، وتوجهه نحو بعض السريالية والفانتازية، تطورت الرواية الجديدة بصورة جذرية منطلقة إلى الغرائبية، التي بدأتها منذ سنوات طويلة الكاتبة السورية غادة السمّان، ثم اميل حبيبي، ومي التلمساني، واحمد المديني، وغيرهم، من الموجة الجديدة للشباب، إنه زمن التفكيك كانعكاس واضح للواقع العربي المهشم، فالروايات الجديدة في أغلبها هي مزيج من مذاهب مختلفة تصب في بوتقة الغرائبية والإدهاش.

لا للتعميم

تذكر القاصة والروائية فاطمة سلطان المزروعي، أن الأدب على مختلف أنواعه وأجناسه، والمنتج البشري في مجال الكتابة الإبداعية، بصفة عامة، متنقل من مجتمع لآخر، وهو متنوع، وهذا يعكس طبيعة العقل المبدع المنفتح على الآخر، بل المتعطش لمعرفة المهارات والحبكات ومنطلقات العقول الأخرى؛ ومع هذا لست مع عملية الحكم العام التي تعطي انطباعاً بأن مجمل المنجز الأدبي على اختلافه في زمن ما كان يدور حول تجربة، أو طريقة لمجتمع آخر، فهذا التعميم غير صحيح، وغير دقيق.

نحن نضع الأعمال الأدبية العربية جميعها، ونضع معها جميع المنتج الأدبي، في سلة واحدة، ونصدر عليها حكماً واحداً، وهذا غير صحيح، ويفوت على من يتبنى هذا الرأي، أن العالم العربي شاسع ومجتمعات متعددة ومتنوعة، فإذا كانت ثلة أو مجموعة استحسنت الأسلوب والدقة والمهارة الروسية في الرواية، فإنه من دون شك هناك مجتمع تغذى على الطريقة الفرنسية في السرد، والكتابة، والحال نفسه، عند مؤلف وكاتب وجد أن الحبكة في الكتابة من أمريكا الجنوبية تناسبه، أو تعجبه، وأنا أميل للنظر لمنتج الأدباء أنفسهم، ودراسة منجزاتهم، ولا أميل للحكم العام على الأدب العربي برمته، ولا أتبنى القول إن هناك توجهاً في الكتابة والتأليف في عالمنا العربي متأثراً بأسلوب وطريقة الكتابة بمجتمع آخر، لكنني أقول إن البعض من المؤلفين تأثروا بطريقة المؤلف الفلاني من أمريكا، أو من روسيا..إلخ. وهذا لن يظهره إلا النقد والدراسة النقدية.

النزعة الإنسانية

تقول الروائية آن الصافي: الأدب العربي في حقب سابقة واكب ما هو سائد عالمياً، فالكاتب ينتمي إلى بيئته والحركة الأدبية العالمية، هل يجب أن يتأثر الكاتب في بقعة ما بأدب دولة أخرى أو حقبة أخرى؟ ليس هذا بسؤال، لكن مجرد نقطة بداية للتفكير حول مسألة هل أثر الأدب العربي في ثقافات أخرى؟ الحقيقة هناك أصوات تقول إن «ألف ليلة وليلة» فعلتها، وهناك من يروج بأن ألف ليلة وليلة ليست بعربية في الأصل.

وفي الألفية الثالثة، عالمياً نجد سمات النزعة الإنسانية ونقد ما سببته الحياة المادية والرأسمالية في المجتمعات، كما نجد نماذج لمنتج أدبي يحتفي بالعلم والمتخيل العلمي والفلسفة، وكذلك أدب السيرة الذاتية، وهناك اهتمام بما يقدم للطفل واليافعين، ويوافق عقلياتهم وما قدمه العصر من تقنيات وأدوات حديثة، بينما في المنجز العربي في ذات الحقبة قد نجد سمة طاغية وهي الكتابات عن التاريخ والصراعات السياسية، وقد يكون هذا ما يعبر عنه الواقع هنا، وبالتأكيد هناك محاولات فردية للخروج من هذه النمطية وهي محاولات ضئيلة، ولكنها بدايات لما يرجى أن يحدث نقلة في المكتبة العربية.

ومن خلال عملي على مشروعي الكتابة للمستقبل، ومحاولة متابعاتي لما يقدم من منجزات أدبية في إقليمنا، متفائلة خيراً بأن لدينا أقلاماً واعدة من الأجيال الجديدة التي آمنت بقيمة التنوع الثقافي، وواكبت الوافد من أدوات العصر من تقنيات حديثة ووعت مدى أثرها في حياة الفرد ومسار المجتمعات.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"