عادي
سلطان في كتاب «إني أدين»:

وثائق كتبها الإسبان تدين جرائمهم بحق الموريسكيين

00:24 صباحا
قراءة 6 دقائق
حاكم-الشارقة

د. ليلى العبيدي*

جمع صاحب السمو الشيخ الدكتور سلطان بن محمد القاسمي، عضو المجلس الأعلى حاكم الشارقة، في كتابه «إني أدين» / منشورات القاسمي، 2017، وجاء في 200 صفحة من الحجم الكبير، عدداً من الوثائق التاريخية الإسبانية المعرّبة، مع إيراد أصولها بالإسبانية، وهي وثائق غاية في الأهمية، لندرة مصادرها المتصلة بتلك الفترة التي شهدت مأساة حقيقية عاشها مسلمو إسبانيا. اختار سموه لكتابه عنواناً في غاية الإيجاز والاكتناز «إني أدين»، ولئن كان هذا العنوان يذكّرنا بمقال إيميل زولا الشهير «أنا أتهم» / جريدة الفجر في 13 يناير/ كانون الثاني 1898 في شكل رسالة مفتوحة إلى رئيس الجمهورية الفرنسية آنذاك، حول قضية دريفوس المتهم ظلماً، فإنّ العنوان يتجاوز الاتهام ليشكل إدانة واضحة لما تضمّنه من أدلّة قاطعة وساطعة على الممارسات البشعة والفظيعة بحقّ المسلمين في إسبانيا في تلك الحقبة التاريخية.

الصورة
1

يقول سموه في ختام المقدمة مؤكداً الطابع القطعي للإدانة في الوثائق المنشورة في كتابه، والتي لم يسبق نشرها من قبل -على حدّ علمنا-: «لقد بيّنت، بعد ذلك، الوقائع التي وقعت لأسباب تلك الإدانات، والمستند الذي يثبت تلك الإدانة في صورة وثيقة مستنديّة قاطعة الدلالة». (ص 7)، إننا إزاء محاكمة تاريخية مبنية على مؤيدات قاطعة تثبت الجرائم الوحشية التي ارتكبها ملوك إسبانيا ومن شاركهم فيها من القضاة ورجال السياسة ورجال الدين وفئات المجتمع الإسباني على اختلافها، ضدّ مسلمي الأندلس، والفظائع التي اقترفوها في حقهم، ولئن تحمّل أوزارها هؤلاء الظالمون البُغاة المعتدون، وقد طوتهم صفحات التاريخ التي سجّلت أعمالهم الدنيئة بشكل لا يمحى على وجه الدهر، فإنّ أحفادهم اليوم مدعوّون إلى الاعتذار عمّا اقترفه أسلافهم من جرائم تقشعر ّلها الأبدان، ويشيب لها الولدان، في حقّ المسلمين المسالمين الآمنين المطمئنين الذين ساموهم ألواناً من العذاب وصنوفاً من التنكيل، وانتهوا بإخراجهم من ديارهم وإجلائهم عن أوطانهم».

1
ليلى العبيدي

إنّ الجامع بين هذه الوثائق أنها تُظهر إمعان ملوك إسبانيا وأتباعهم بعد ذهاب مُلْك المسلمين منها، وسقوط آخر ممالكهم فيها (غرناطة)، في إساءة معاملة المسلمين، وما ساموهم من سوء العذاب وفظيع التنكيل. وتكشف عمّا أُشْرِبَتْهُ قلوبهم من بالغ الكراهية، وما استكنّ فيها من داء التعصب، وما ملئت به من حقد وكراهية، وما أجمعوا عليه من سياسة التطهير العرقي، وما اتّسم به سلوكهم من إقدام على المظالم السافرة، وانتهاك للحقوق الواضحة، وما انطوت عليه قلوبهم من خشية من المسلمين، وتوجّس من خطرهم المحتمل، رغم إذعانهم لسلطانهم وإظهار الدخول في دينهم، ومدى حرص أولئك الملوك الظَلَمة القُساة على قطع دابر المسلمين بانتهاج سياسة رسمية لقطع نسلهم، ومنع تكاثرهم بكلّ وسيلة، حتى تبقى إسبانيا خالية من كلّ نفَس يُشك في أن فيه رائحة الإسلام.

عداوة وتعصب

ثمّة إجماع على اجتثاث الوجود الإسلامي من إسبانيا. مثال ذلك ما ورد في الوثيقة الأولى، وهي أمر ملكي لكارلوس الخامس 1530، يخص موريسكيي «بلنسية» من قوله: «تطاول الموريسكيين الأشرار والأتراك أعداء إيماننا المقدس»(ص 15)، فهذا الخطاب دال على أن ملوك إسبانيا رغم إكراه المسلمين على اعتناق المسيحية، لم يقتنعوا بانقيادهم الظاهر، بل اعتبروهم «أشراراً». وهذه الوثيقة تنضح، كغيرها من الوثائق، تعصّباً مقيتاً، وتنطق بعداوة شديدة للمسلمين الذين يمثّلهم «الأتراك»(العثمانيون). وفي الوثيقة نفسها القرار التالي: «كلّ من تنصّر مؤخراً، ثم غيّر موضع سكنه، أو غادر مسكنه المعلوم فإنه يقع تحت رحمة أصحاب السموّ، قد ضاعت منه أمواله وأمتعته في الحين نفسه بلا رجعة». (ص 16) وتشجيعاً من الملك على الإيقاع بهؤلاء فإنّ لمن قبض على واحد منهم نصف ممتلكاته. و«الذين تنصروا مؤخراً، والذين يخرجون عن الطريق الملكي الرابط بين بلنسية وبرشلونة من جهة الشرق ولا يحملون وثيقة هوية مختومة بالخاتم الرصاصي (...) فيحكم على هؤلاء بالإعدام وأمتعة هؤلاء تضيع منهم»(ص 16)، وفي الوثيقة نفسها مظاهر من تشديد الرقابة على الموريسكيين ومحاصرتهم بفرض الغرامة على كل من يساعدهم أو يؤويهم، وإيقاع العقوبة عليهم، ولو كانوا أطفالاً في عمر الثماني سنوات.. كما في الوثيقة (ص 18)، وتضمّنت حرصاً على تنفيذ هذا الأمر الملكي وضرورة احترامه وصونه «بفخر واعتزاز»، وتطبيقه حرفياً تطبيقاً كاملاً غير منقوص.

إنّها وثائق ملكية رسمية تكشف بجلاء عما بلغته قساوة المعاملة الوحشية للموريسكيين، وانتهاك حقوقهم الأصلية وكرامتهم الإنسانية. فهم يعمدون إلى إباحة استعبادهم، ونهب أموالهم، وسلب متاعهم، والاستحواذ على ممتلكاتهم، ومصادرة أراضيهم، والاعتداء على أبدانهم: «يَسِمونهم على وجوههم بالحديد المحمّى»(ص87)، وتعمّد إهانتهم، والتنكيل بهم، والجور في معاملتهم بالزج بهم في السجون ظلماً (ص 99)، وحمْلهم على تبديل دينهم وإكراههم على اعتناق النصرانية (ص 86)، واتّخاذ الإجراءات الكفيلة بتنصير أطفالهم. (ص 111).

وقد ورد في الوثيقة السادسة قول سموه: «مع العمل خاصة على أن يعتنقوا المسيحية أو على الأقلّ أطفالهم»(ص 115). ولم يكن إعلان دخولهم في المسيحية كافياً، فكان أن استحدث السّاسة بالتحالف مع رجال الدين نظاماً جهنمّياً للرقابة اللصيقة بهم، والتفتيش في ضمائرهم، والبحث عن أبسط الذرائع وأضعف المبرّرات لطردهم من بلادهم وإجلائهم عنها قسراً وبغير رحمة، (ص 123)، على أنّ في الوثيقة السابعة (رسالة من الملك «دون فيليب» الثالث القاضية بإجلاء الموريسكيين من مملكة بلنسية المنشورة في 22 من شهر سبتمبر/ أيلول عام 1609)، إقراراً بفشل سياسة التنصير، يقول: «بعد محاولتنا طوال سنين عدة تنصير الموريسكيين بهذه المملكة وبقسطيلية، وبعد مراسم العفو التي مننّا بها عليهم إجابة لطلباتهم الشرعية بخصوص تعليمهم شعائرنا الدينية وقلة النتائج بعد تلك الجهود كلها، فإننا لم نر أحدا تنصّر، بل العكس فإنّ عنادهم لم يزدد إلا تفاقماً»(ص 128).

إنّ قيمة هذا الكتاب الذي أحسن صاحب السمو حاكم الشارقة جمع وثائقه الثمينة وترتيبها والتقديم لها والتعليق عليها، وإيراد الهوامش الموضّحة لما أشكل منها، تكمن -في تقديرنا- في أنّه يؤرّخ للذّهنية المتحكّمة في النصارى في تلك الحقبة التاريخية، وهي دالة على التحالف المتين بين رجال الدين ورجال السياسة، وإجماعهم على تطهير البلاد من المسلمين، والقضاء على كلّ ما من شأنه أن يمثّل تهديداً للوحدة الدينية في إسبانيا، ولو كان ضئيلاً، ومهما كان بعيد الحدوث مشكوكاً في حصوله.

نزعة عنصرية

وتكشف الوثائق الملكية الرسمية عن نزعتهم العنصرية التمييزية إزاء الموريسكيين، وما يضمرونه تجاههم من أحقاد موروثة، يظهر ذلك من خلال نعتهم بأبشع النعوت ولاسيما وصْمُهم ب«الكفر» و«الإلحاد»، فهم «أشرار» «ملاعين» «زنادقة » مرتدّون» (ص128)...

إن هذه الوثائق تمثل صورة بليغة تفصح عن مآسي التعصّب الديني المقيت، وما كان له من أثر في طبْع العقلية المسيحية السائدة في تلك الفترة بالانغلاق الذي يحمل على نبْذ الآخر، وإقصائه، بل إعدامه من الوجود أصلاً، وما كان له من وخيم النتائج على التعايش بين الأديان والملل والطوائف، فقد آل إلى الإبعاد والإقصاء والتهجير والتطهير العرقي.

وممّا تكشف عنه تلك الوثائق الفرق الشّاسع بين ما كان يعامل به المسلمون غيرهم من أهل المِلل، ولا سيما أهل الكتاب من النصارى واليهود الذين كانوا يعيشون آمنين على أنفسهم وأعراضهم وأموالهم، بين ظهراني المسلمين، بل إنّ منهم من تولّى المناصب السامية في الدولة، وما تعامل به ملوك إسبانيا من تعصّب وضيق أفق وسوء معاملة للمخالف في الديانة، ولا سيما إذا كان من المسلمين، فهو مُنْتَهك الحقوق، مُستباح النفس والعرض والمال.

وقد أحسن سموه عندما ضمّ إلى تلك الوثائق المهمة مُلحقاً ضمّنه نصّ «معاهدة تسليم غرناطة التي أصدرها الملكان الكاثوليكيان لأبي عبد الله الصغير وأهل غرناطة بتاريخ 25 نوفمبر/ تشرين الثاني 1491م 21 محرم 897 هجرية»، ومن بنودها ما تضمّن تعهّداً باعتبار جميع سكان غرناطة «رعايا طبيعيين (...) وتُتْرك لهم جميع بيوتهم وأراضيهم وأملاكهم من دون أن يلحق بها أي ضرر أو حيْف، وألّا يُؤخذ أيّ شيء منها يخصّهم، بل بالعكس سيتمّ احترام الجميع ومساعدتهم ويَلْقَوْن المعاملة الطيّبة من قبل صاحبَي السموّ وشعبهما». (ص 194).

إدانة واضحة

يختم سموه كل ذلك بإدانة واضحة لهذه الممارسات غير الإنسانية، ويقول في المقدمة التي وضعها لهذه المجموعة وهي في غاية الإيجاز والاكتناز: «لقد قمت بوضع تلك الوثائق في صورة إدانات أدين بها كل من قام بتلك الأعمال الشنيعة تجاه مسلمي الأندلس»(ص6)، غايته أن يرفعها إلى الضمير الإسباني بغاية الاعتذار «عما أصاب المسلمين في تلك الفترة وإرجاع حقوقهم إليهم». (ص 189)

ومن ثمّ نتبين بجلاء ما يصدر عن سموّه من حسّ إنساني مرهف، ومن شعور عميق بالانتماء الحضاري العربي الإسلامي العريق الضارب في القدم.

إنه كتاب يحفظ ذاكرة بعيدة، وتاريخاً غير مزوّر، ويحفظ آلام وآمال الموريسكيين، كتاب حكيم من رجل حكيم، يبوح بأسرار الأمس التي ظلّت حبيسة المخطوطات والرسائل لقرون، يدعو للتأمل في أحوالنا والوقوف ملياً أمام التاريخ للمساءلة والانتصار.. إنّه كتاب النهايات المؤلمة لبدايات مزهرة.

*أستاذة مساعدة في الحضارة والأدب القديم بجامعة الشارقة

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/3mskkhuz

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"