عن صراع الثنائيات المتضادة

00:03 صباحا
قراءة 3 دقائق

د. علي محمد فخرو
لا يتعب المثقفون العرب من الرجوع المتكرر لثنائيات الأفكار، ومسالك الفعل الضروري، مع ما يرافقه من ذرف دموعهم بسبب عدم قدرتهم على حسم موضوع تلك الثنائيات.

وفي الأغلب يرجعون أسباب عدم الحسم إلى عجز الأمة الفكري والثقافي والسلوكي التاريخي، وإلى بلادة الفرد العربي في التعامل مع الفكر والواقع، مع كثير من التحامل الجارح.

وقد مرّ أكثر من قرنين والمثقفون والإصلاحيون يدورون في هذه الحلقة المفرغة. ولا أعرف أمة أنهكت كل قواها، العقلية والتحاورية، في الصراعات حول الثنائيات، مثل ما فُعل بأمتنا ومثلما فعلت بنفسها. ومنذ طفولتنا، ونحن نسمع الصراخ والعويل حول ثنائية الإيمان والعقل، السلفية والحداثة، الدين والعلمانية، الفرد والجماعة، القطر العربي والوطن العربي، العروبة القومية والإسلام، الرجل والمرأة، الولد والبنت، العلوم والآداب... إلخ.

ولا يعرف الإنسان سبب عدم قبول تعايش وتحاور وتنافس تلك الثنائيات من دون أن يعلن الحكم بانتصار هذه، أو تلك. بل يسأل الإنسان نفسه: هل حقاً أن واحدة من المجتمعات الأخرى قد حسمت تلك الثنائيات، بالمعنى الذي نريده في بلاد العرب، أم أن جميع المجتمعات البشرية، من دون استثناء، تعيش فيها كل أنواع الثنائيات جنباً إلى جنب، وأن الذي حسم هو وجود نظامَي تحاور وتنافس متسامحين فيما بين كل ضدين، وترك الأمر للزمن ولتبدل الأحوال لكي يقررا في النهاية حياة هذا، أو موت ذاك.

دعنا نأخذ مثال ثنائية الدولة القطرية ودولة الوحدة القومية. لقد طرح الموضوع منذ خروج العرب أولاً من تحت عباءة الحكم العثماني، ثم طرح بعد أن أمعن الاستعمار الغربي في تمزيق الوطن العربي إلى دول وطنية متباعدة عن بعضها بعضاً.

وكان طبيعياً أن يكون رد فعل البعض هو طرح شعار وحدة الأمة في دولة إندماجية واحدة، خصوصاً بعد أن تم زرع إسرائيل في فلسطين. لكن القوى السياسية الثلاث التي طرحت شعار الوحدة العربية، وهي: حزب البعث العربي، والحركة الجماهيرية الهائلة التي قادها الرئيس الراحل جمال عبدالناصر، وحركة القوميين العرب، لم يوفقوا في إيصال مشاريعهم إلى بر الأمان، لأسباب خارجية وداخلية كثيرة، فصّلت في مئات الكتب والمؤتمرات.

لكن ما إن تعثر ذلك المشروع العربي الكبير حتى أطل علينا البعض، بالعقلية الثنائية إيّاها، لا بالمناداة لإصلاح ما تعثر في الماضي، وإنما بإعلان انتصار الدولة القطرية التي أصبحت قدراً لا رادّ له عند هؤلاء.

والواقع أن الموضوع برمّته يطرح بشكل خاطئ، إذ ما المشكلة في التعامل مع وجود الدولة الوطنية القطرية، والعمل على أن تقوم بواجباتها التنموية، والانتقال بها إلى مرحلة ديمقراطية متقدمة وحقيقية، وفي الوقت نفسه، ومن دون تضاد أو صراع أو الدخول في معركة الثنائيات، العمل على أن تتوجه الدولة الوطنية نحو تحقيق وحدة عربية متدرجة تضامنية وتعاونية في البداية، إلى أن تنضج شروط قيام وحدة أكثر اقتراباً من الاندماج والانصهار المتفق عليه بتراضٍ ديمقراطي شعبي في المستقبل.

ثمّ عن أية دولة وطنية قطرية عربية يتحدثون؟ أليست هي الدولة العربية الحديثة التي مر على وجودها قرابة القرن، ومع ذلك فشلت فشلاً ذريعاً في بناء تنمية إنسانية مستدامة، وفي الانتقال إلى الديمقراطية والتخلص من الاستبداد، وفي تقديم مشروع تجديد ثقافي وحضاري، وفي استقلال وطني حقيقي بعد أن أصبحت مستباحة من قبل كل من هبّ ودبّ من دول الاستعمار، وفشلت في الدخول في عصر العلم والتكنولوجيا، وفي ألف ساحة وساحة أخرى؟ هل حقاً أن الحل العربي يكمن في العيش مع الدولة القطرية الفاشلة مهما كانت نواقصها؟

ثم، ألا يرى هؤلاء أن قوة ومكانة بلدان، مثل الولايات المتحدة الأمريكية والصين وروسيا وألمانيا والهند، بل وقوة ومكانة تكتل مثل الاتحاد الأوروبي، أحد أسبابها الرئيسية هي اتحاد مكوناتها وأممها في وحدة سياسية لدولة واحدة؟ أو في تكتل تضامني تعاوني قائم على أسس متينة؟

موضوع الدولة القطرية والدولة الوحدوية يجب أن يخرج من عبث الثنائيات المتصارعة، ويدخل في حوار التناغم والفعل والتقوية للمكونين حالياً، مع الأمل ألا يطلب أحد التضحية بأحلام هذه الأمة في وحدتها الوجودية الشاملة التامة في المستقبل.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/ykedy3ha

عن الكاتب

شغل منصب وزير الصحة ووزير التربية والتعليم سابقاً في البحرين. متخصص في كتابة مقالات في شؤون الصحة والتربية والسياسة والثقافة. وترأس في بداية الألفين مجلس أمناء مركز البحرين للدراسات والبحوث. كما أنه عضو لعدد من المنظمات والمؤسسات الفكرية العربية من بينها جائزة الصحافة العربية المكتوبة والمرئية في دبي

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"