منتظر الزيدي ولقاء في بيروت

00:22 صباحا
قراءة 3 دقائق

د.مصطفى الفقي

لعلنا نذكر – خصوصاً في هذه الأيام – ما قام به شاب عراقي هو الكاتب الصحفي منتظر الزيدي الذي قذف بحذائه الرئيس الأمريكي السابق جورج دبليو بوش وهو يقف في مؤتمر صحفي مشترك مع رئيس وزراء العراق حينذاك نوري المالكي، ورأينا على شاشات التلفزة الموقف كله وكيف تفادى الرئيس الأمريكي القذيفة الأولى من فردة الحذاء اليمنى ثم القذيفة الثانية من فردة الحذاء اليسرى. لقد وقف الخلق ينظرون جميعاً لذلك الحادث الفريد الذي لم نشهد له مثيلاً من قبل، وأتذكر أن رجال الأمن تكالبوا على منتظر الزيدي وطرحوه أرضاً كما لو كانوا يتعمدون الفتك به، وقلت وقتها: «إنه شهيد الكرامة يمضي في مواكب من يسجلون مواقف تاريخية لخدمة أوطانهم».

وقد جرى حبس منتظر الزيدي لفترة جرى فيها تعذيبه ووضعه في زنزانة انفرادية كما تعرضت أسنانه وأصابع يديه للتكسير بسبب حملات الضرب والتعذيب التي خضع لها، وكنا نشعر بتعاطف مع ذلك الشاب العراقي الذي دفعته شهامته وكرامته إلى القيام بما فعله متحدياً سطوة أمريكا في العراق حينذاك وإمكانية قتله في أية لحظة داخل السجن أو خارجه.

ومرت الأيام وقمت شخصياً بزيارة لمدينة بيروت بعد ذلك بعدة سنوات مدعواً من نجيب ميقاتي رئيس وزراء لبنان الحالي للمشاركة في ندوة حول الوسطية في الفكر السياسي المعاصر. وفي مساء يوم زيارتي لبيروت كانت المفاجأة أن ألتقي في الفندق الذي أقيم فيه بالشاب الفدائي منتظر الزيدي الذي حكى لي تفصيلاً الواقعة وكان يبدو منشرحاً راضياً مؤمناً بأن ما فعل هو أقل ما يجب أن يكون رداً على من غزا العراق ودمر بلاد النهرين صاحب الحضارة البابلية والآشورية ثم العربية والإسلامية.

ولقد حكى لي يومها أمراً لم أكن قد التفت إليه وهو أن الجنود والحرس الأمريكي للرئيس عندما أمسكوا بالزيدي كان همهم الأول هو الحصول على فردتي الحذاء والجري بهما إلى مكان غير معروف، وتفسيره لذلك أنهم كانوا يتوقعون أن يتحول الحذاء إلى رمز يجري الاحتفال به من الجانب العراقي والعربي في المناسبات المختلفة بوضعه في فاترينة زجاجية داخل موقع يصبح مزاراً لكل من يريد أن يكتب عن تلك الواقعة الفريدة في تاريخ العلاقات الدولية الحديثة. أكتب الآن حول هذا الموضوع متذكراً أن منتظر الزيدي حكى لي يومها أيضاً أنه اشترى ذلك الحذاء من محل في شارع جانبي متفرع من شارع الهرم بمصر أثناء زيارته لها قبيل الحادث، وكأنما كانت الأقدار ترتب لما جرى بحيث يكون الحذاء قذيفة عربية موجهة إلى وجه الرئيس الأمريكي حاملة كل معاني الأحزان التي عاشها العرب في فلسطين والعراق وغيرهما من مناطق العدوان الأمريكي عليهم في العقود الأخيرة.

الزمن يمر ولكن خمسة عشر عاماً لم تمسح ما جرى ولم تؤدّ إلى غياب ذلك الحدث الفريد عن الذاكرة العربية في ظل أحداث غزة المأساوية والدعم الأمريكي المطلق لدولة إسرائيل بعدوانها الدامي الذي قتلت فيه آلاف الأطفال الفلسطينيين وألقت بالرضع منهم في المستشفيات حتى جرى دفنهم تحت أرضها.

ثم يتساءل الأمريكيون بعد ذلك: لماذا يكرهوننا؟ والإجابة ببساطة أنه لا توجد لدينا مشكلة مع الشعب الأمريكي بل العكس هو الصحيح، ولكن المشكلة الحقيقية هي مع توجهات بعض القيادات الأمريكية خصوصاً في ظل أحداث غزة الأخيرة والانحياز الكامل والفاضح من جانب واشنطن ضد الشعب الفلسطيني بحجة القضاء على المقاومة، متناسين أن السبب في كل ذلك يبدأ من استمرار الاحتلال وعمليات القهر المستمر والسياسات العنصرية الاستيطانية.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
http://tinyurl.com/2vm476a9

عن الكاتب

دبلوماسي وباحث وأديب ومفكر ومؤرخ وكاتب، يمتلك خبرة واسعة في المجالات السياسية والثقافية ألَّف 36 كتابًا تسلط الضوء على بعض القضايا مثل الإصلاح السياسي والفكري القضاء على كل أشكال التمييز ضد الأقليات، والوحدة العربية والتضامن

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"