عادي

الدكتور سلطان القاسمي يكتب: مزرعة الصالحية في رأس الخيمة

01:30 صباحا
قراءة 4 دقائق
1

في فترة الحرب العالمية الثانية (1939م-1945م)، كان والدي قد اختار أرضاً بين السهل، الذي يطلق عليه سيح، حيث تسيح مياه الأمطار، ورمال الخران برأس الخيمة، وأطلق والدي على تلك الأرض: الصالحية، وقام بزراعتها قمحاً على الأمطار.

في عام 1947م، كنا نسكن في منطقة الخران، وفي أعلى بقعة فيه، ونطلّ على السهول وخور رأس الخيمة، كان والدي يأخذنا إلى مزرعة الصالحية، ومعنا حشد من الصبية يحمل كل واحد منا بيده مقلاعاً، ويضع في ثنية ثوبه عدداً من الأحجار، وبتلك المقاليع يرمي الصبْية تلك الأحجار لطرد العصافير من بين سنابل القمح.

في عام 1962م، زار المدرسة الصناعية، مهندس زراعي إنجليزي أُحضر من قبل مجلس التطوير الذي أسسه الإنجليز، وأعضاؤه من جميع حكام الإمارات، لتطوير الزراعة ومساعدة المزارعين، حيث أنشأ ذلك المهندس مركزاً زراعياً في منطقة الدقداقة برأس الخيمة.

كانت المدرسة الصناعية بالشارقة تابعة لمجلس التطوير، وكنت نائباً عن مدير المدرسة الذي كان غائباً في زيارة إلى لندن، دار بيني وبين المهندس الزراعي الإنجليزي حديث مطوّل عن الزراعة، حيث ذكر أن كميات كبيرة من بذور الخضراوات المحسّنة قد وصلت إلى المركز الزراعي بالدقداقة برأس الخيمة، وسألني إذا كنت أملك مزرعة، فإنه على استعداد لمساعدتي شخصياً.

كان جوابي بأنني سأقوم بإنشاء مزرعة للخضار، وأنني سأتصل من هناك بالمركز، وذكرت له أن والدي يملك أرضاً كبيرة قد قام بزراعتها بالقمح في فترة الحرب العالمية الثانية، وهي قريبة من المركز الزراعي بالدقداقة برأس الخيمة.

بعد ذلك اللقاء، ذهبت إلى والدي وأخبرته بأني سأقوم بإنشاء مزرعة للخضراوات، وطلبت منه أن يمنحني أرض مزرعة القمح بالصالحية، فوافق على ذلك، فباشرت بتأسيس مزرعة الصالحية لإنتاج الخضراوات، في عام 1962م.

من مزرعة الصالحية، ذهبت إلى مركز الدقداقة الزراعي، وهناك قابلت شاباً، وعندما حدقت في وجهه قلت: محمد بن مسعود؟

قال: نعم، وأضاف: من؟ سلطان؟

قلت: نعم.

قال محمد بن مسعود: كم سنة مرت منذ افترقنا؟

حسبتها وإذا هي خمس عشرة سنة.

كان محمد بن مسعود الجريدي، من قوم بن ضاوي، واحداً من الصبْية الذين كانوا يحملون المقاليع.

كان محمد بن مسعود، وقريب له، وآخر من قبيلة زعاب يسكن أهله في منطقة الخران، فقد كنا نلتقي كل يوم من الصباح إلى المساء، نأكل السحالي والجرابيع والطيور التي كنت أصطادها بنشابة صنعتها بيدي.

أما محمد بن مسعود، فكان يأوي إلى عمّتيه شقروه وحمروه، الساكنتين في خيام من شعر بالقرب من بيتنا.

طلبت من محمد بن مسعود أن أقابل الإنجليزي.

فقال: تقصد الخبير الزراعي؟

فقلت: نعم.

فأوصلني إليه.

كان المهندس الزراعي الإنجليزي، قد زودني بالبذور المحسّنة للخضراوات، وقد شرح لي كثيراً من علم الزراعة، حتى أصبح إنتاج مزرعتي مرغوباً في أسواق الشارقة.

في ذات يوم أخذت معي إلى مزرعتي صديقاً لي إنجليزي الجنسية، وهو من المقيمين في القاعدة البريطانية، وكنت تعرفت إليه في ملاعب كرة القدم، حيث كان يلعب في فريق سلاح الجو البريطاني، وأنا كنت ألعب في فريق القاعدة البريطانية.

في مزرعتي، كان صديقي الإنجليزي قد انكبّ على شجيرة فلفل رومي، فأخذت أناديه وأحذره، فما وجدته إلّا وهو مسرعٌ ناحية حوض المياه في وسط المزرعة، ولحقته هناك، فإذا به قد غطس فمه في ماء ذلك الحوض، ويرفعه، ويصيح: في بلادنا هذا بارد، ثم يغطس فمه ويرفعه، ويصيح: ما الذي حدث؟

قلت له: هذه النباتات المحسّنة.

فأجاب: هذه النباتات المضرة.

وفعلاً، قد تبيّن أن معظم النباتات التي تدخّل الإنسان باللعب في جيناتها أصبحت مضرة.

في إحدى زياراتي لمزرعة الصالحية، نمت ليلتها في خيمة من سعف النخيل، وكان فراش النوم على أرضية الخيمة. وعند الفجر صحوت على فحيح أفعى تحت المخدة التي وضعت خدي عليها، وعندما رفعت المخدة، رويداً، رويداً، لتنكشف عن أفعى، ملتوية حول بيضة لها.

أرجعت المخدة إلى ما كانت عليه، وأسرعت إلى خارج الخيمة، أبحث عن صخرة، أضرب بها تلك الحية.

أحضرت معي صخرة مبططة، وكشفت عن الحية ومباشرة أنزلت تلك الصخرة على الحية وبيضتها، فقضيت عليها وعلى بيضتها.

في صباح ذلك اليوم غزا الجراد المزارع المجاورة واتجه نحو مزرعة الصالحية، وبينما كنت أستعد للسفر إلى الشارقة فإذا بحنشٍ طويل، يتلوى، وينُط نحوي. فقلت في نفسي: لقد جاء لينتقم لزوجته وابنه الذي لم يفقس بعد.

لكن ذلك الحنش كان يطارد الجراد، المتجه ناحية سيارتي. بحثت تحت السيارة عن ذلك الحنش فلم أجده، فهل دخل إلى محرك السيارة؟، بالتأكيد سيموت من الحرارة.

انطلقت بسيارتي متجهاً إلى الشارقة، فعاودتني الوساوس، وأخذت أبحث فيما حولي عن ثقب دخل من خلاله الحنش ليأتي إليّ. فلم أعثر على أية فتحة قد دخل من خلالها الحنش، ليصل إليّ للانتقام.

كنت حينها لابساً قميصاً وإزاراً، وإذا بي أحس بدبيب بين فخذي والإزار، فقلت: هو ذاك الحنش!!!

فما كان مني إلّا أن فككت ربطة الإزار على وسطي وانسلخت منه، لأرتفع إلى سقف السيارة، واضعاً اليدين على مقود السيارة، والقدمين على قمة المقعد، والسيارة منطلقة.

مرت بجانب سيارتي سيارة أخرى وإذا بهم يصيحون: سيارة تمشي بلا بشر!!!

توقفت سيارتي من نفسها وأسرع من كان بالسيارة المارة بسيارتي، إلى سيارتي مستغربين المشهد. فوجدوا شخصاً – وهو أنا – ملتصقاً بسقف السيارة.

فقلت لهم: افتحوا باب السيارة، وستجدون إزاراً به حنش، اسحبوا الإزار.

ما إن ألقوا بالإزار على الأرض، وإذا بهم وأنا كذلك، نشاهد جرادة تمشي الهوينا خارجة من الإزار.

قلت: أعطوني إزاري لأستتر به.

بعد مزرعة الصالحية، أكملت دراستي لأدخل كلية الزراعة بجامعة القاهرة، لأتخرج منها، مهندساً زراعياً.

الدكتور سلطان بن محمد القاسمي

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/2p9wm2py

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"