عادي
بلا ضفاف

أبو البقاء الرندي

02:05 صباحا
قراءة 3 دقائق
شاعرنا هو صالح بن يزيد بن صالح بن شريف من أهل رندة، ويكنى «أبو الطيب» و«أبو البقاء»، غير أن الكنية الثانية هي التي شاعت، وعرف بها الشاعر في المشرق والمغرب، ولد سنة 601 هجري /1285، وهذا يعني أنه ولد ونشأ وشب في أواخر دولة الموحدين، وأنه شهد الاضطرابات المريعة التي مرت على الأندلس بعد هزيمة العقاب الشنيعة عام 609 /1213 وأنه شاهد سقوط المدن الإسلامية في الأندلس، مدينة تلو مدينة، إلى أن انحصرت الرقعة الأندلسية في مملكة غرناطة التي أقام فيها بنو الأحمر دولتهم، وكانت رندة بلد الشاعر من المدن التي كانت تابعة لهذه المملكة الإسلامية الصغيرة، ولا شك أن هذه الأحداث قد تسربت كلها إلى أعماق أبي البقاء وأن إحساسه بها كان كغيره من الأندلسيين أليماً وفادحاً.
كانت علاقة شاعرنا مع ملوك بني الأحمر وطيدة وتدل القصائد الباقيات من شعره في بني الأحمر أنه كان شاعر القصر عندهم، فهو يهنئ بالأعياد ويتغنى بالانتصارات ويشارك في المواسم والمناسبات ويرثي من يتوفى من الأسرة أيضاً.

وقد كان له حضور واضح في الحركة الثقافية لعصره، فلم يكن شاعراً وحسب، بل كان أديباً ناقداً، ألف كتاباً عنوانه «الوافي في نظم القوافي»، وهو كتاب نقدي جامع، وذكرت المصادر طائفة من كتبه ما تزال مفقودة.

وقد نوه الأقدمون بثقافة هذا الشاعر وشخصيته، وقيل إنه كان خاتمة الأدباء في الأندلس، بارع التصرف في منظوم الكلام ومنثوره، فقيهاً، حافظاً، متفنناً في معارف شتى، نبيلاً، متواضعاً، مقتصداً في أحواله.
ومن أشهر قصائد شاعرنا نونيته التي يقول في مطلعها:

لكل شيء إذا ما تم نقصان

فلا يغر بطيب العيش إنسان

تضمنت القصيدة أفكاراً رئيسية منها تصوير نكبة الأندلسيين، والاستنجاد بأهل المغرب وحثهم على الجهاد، وقد بذل أبو البقاء جهده في استثارة مشاعر المسلمين وحثهم على تدارك ما بقي من الأندلس، محركاً في نفوسهم البواعث الدينية والوطنية، مستثيراً غيرتهم على أعراضهم ومحارمهم، مصوراً الأخطار المحدقة بهم، ومع أن القصيدة أيضاً تعبر عن موقف ذاتي، إلا أنها ذات دلالات تاريخية واجتماعية، فهي تنقل لنا صوراً مؤثرة للأحوال النفسية لمسلمي الأندلس، وقد نقل شاعرنا ذلك كله في عبارة مكتنزة بالحزن، ومن يقرأ القصيدة، يشعر أن أبا البقاء بكى الأندلس بدموع تتساقط من قلبه ولسانه.

وفي هذه القصيدة المؤثرة، نجد أن أبا البقاء استجاب في إنشائها لإحساس غامر، وأن القصيدة تتسم بحرارة العاطفة وروعة الحماسة الدينية والوطنية، لأنها تعبير صادق عن موقف عاناه الشاعر وتجربة عاشها وتأثر بها.
ومن جماليات القصيدة، أنها لا تجري على نسق واحد من التعبير، فقد لون الشاعر في أدائه حسب مقتضيات المعنى والحالة النفسية وتقلبها، وراوح فيها بين التقرير والسرد والإنشاء، وحرص على اختلاف إيقاع الأبيات باختلاف معانيها، فهو في الأبيات الأولى ينحى منحى التقرير، تقرير الحكمة الهادئة، وجاءت الأفعال الرئيسية فيها أفعالاً مضارعة، تدل على الاستمرار والديمومة والثبات في سنن الحياة، وكأن الشاعر يقرر بهذه الصيغ قوانين ثابتة تجري عليها نواميس الدهر، فكانت نظرة تأملية في أحداث الدهر استدعت إيقاعاً هادئاً، ونغماً رتيباً متأنياً.
ومن أهم سمات القصيدة الوحدة الموضوعية، وتسلسل الأفكار وترتيبها على نحو من النسق والنظام، وصدق التجربة الشعرية واقعياً وفنياً، وصدق عواطف الشاعر وحرارتها وسموها وشمولها، ثم الموائمة بين الألفاظ والمعاني، وبين الأسلوب ومقتضيات المعنى والحالة النفسية، وتوظيف الطباق لتأدية المعنى، ثم استخدام الصور البيانية لإيصال الأفكار بوضوح.
نونية أبي البقاء الرندي من عيون الشعر، ولها قيمة تاريخية واجتماعية بالإضافة إلى قيمتها الفنية، ومن الجميل أن نعود لقراءتها وتدبر معانيها وتأملها.

نجاة الفارس

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"