عادي
قمم خالدة

ويل ديورانت الحضارة لا تموت ويل ديورانت قمم خالدة

03:54 صباحا
قراءة 7 دقائق
إعداد: عثمان حسن

قصة الحضارة.. من أين بدأت؟ وكيف تنتهي؟ وهل يجب أن تنتهي؟ أسئلة شغلت عقل ويل ديورانت، فشغل بها العالم في كتابه الموسوعي، مازجاً بين علم التاريخ وكتب الأسفار والرحلات وعلم الاجتماع... كل ذلك في إطار فلسفي خاص.
هو فيلسوف ومؤرخ وكاتب أمريكي، اشتهر بكتابه «قصة الحضارة»، وعرف عنه مواقفه المناصرة لحقوق المرأة والمدافعة عن حق المساواة في الأجور والعدالة في ظروف العمل.
هو هذا الناشط الاجتماعي، وذاك المؤلف الموسوعي، والفيلسوف، وكاتب القصة الأكبر، قصة الحضارة.
ولد «ويليام جيمس ديورانت» في الخامس من نوفمبر/تشرين الثاني عام 1885 في ولاية ماساتشوستس الأمريكية، وتحديداً في بلدة «نورث آدمز».
تلقى ديورانت تعليمه في مدارس دينية، بدءا بمدارس «نورث آدمز» ومدارس «كيرني» التي تتبع الكنيسة الكاثوليكية، ثم كلية القديس بطرس (اليسوعية)، قبل أن يلتحق بجامعة كولومبيا في ولاية نيويورك.
بدأ ويل ديورانت حياته المهنية من بوابة الإعلام، بالعمل مراسلا لصحيفة نيويورك، لكنه ما لبث أن هجر هذه المهنة التي لم يجد نفسه فيها، منتقلا إلى حقل التعليم، ومستفيدا من إتقانه عدة لغات، حيث قام بتدريس اللغات اللاتينية والفرنسية والإنجليزية، إلى جانب تدريس مواد أخرى، في أكثر من مؤسسة تعليمية.
بعد نيله درجة الدكتوراه في الفلسفة من جامعة كولومبيا بدأ ديورانت سلسلة رحلاته التي طاف بها العالم، فزار خلال سنوات متفرقة بلاد الشرق والغرب مؤسساً لنفسه ذلك الرصيد الهائل الذي مكنه من إنتاج إصداراته المعرفية.

كتبه

اهتم ديورانت بإلقاء محاضرات فلسفية حرة، بعيدا عن رتابة السلك الأكاديمي، وقد ترك أثرا مهما في جمهوره من خلال أسلوبه وأفكاره.
لاحقاً أصدر ديورانت كتابه «قصة الفلسفة»، محققا انتشارا كبيرا. وكان لهذا الكتاب أثره في حياة ديورانت من خلال عوائده المالية المتحققة التي مكنته من الاستغناء عن الوظيفة والتفرغ للبحث والتأليف.
وهكذا، توالت إصدارات ديورانت، فنشر كتابه «التحول»، الذي يعبر فيه عن تحوله شخصيا على المستوى الفكري بالانعتاق من الأفكار المعلبة والإبحار في عالم عقلي متحرر.
«مباهج الفلسفة» كتاب آخر لديورانت، تبعه كتاب «مغامرون في بحار العبقرية»، قبل أن تأتي مرحلة التفرغ من أجل الكتاب الأهم والمشروع الأكبر، «قصة الحضارة».
ويذكر من مؤلفات ديورانت أيضا: «عظات التاريخ»، «تفسير الحياة»، إضافة إلى كتاب «سيرة حياتنا»، الذي وضع فيه سيرة ذاتية له ولزوجته.
أما آخر كتبه فكان «أبطال من التاريخ».

قصة الحضارة

هذا المشروع الكبير الذي قضى فيه ديورانت معظم سنوات حياته يضم حصيلة أربعين عاما من التطواف في حضارات العالم شرقا وغربا، ويحكي العناصر المكونة للحضارات والفلسفة التي تقوم عليها أي حضارة، وعوامل النشأة والتكوين والتطور، وغير ذلك من التفاصيل التي يعالجها هذا المؤلَف الضخم.
ويناقش ديورانت تطور الحضارات وتحللها، عارضاً سؤال «موت الحضارة» على بساط البحث والمناقشة والتأمل.
«نظام اجتماعي يعين الإنسان على الزيادة من إنتاجه الثقافي».. هكذا تتعرف الحضارة عند ديورانت. أما عناصرها فأربعة: الموارد الاقتصادية، النظم السياسية، التقاليد الخلقية، متابعة العلوم والفنون.
ويؤكد ديورانت على «الأمن» كعنصر خلق للحضارة، فلا فسحة للحضارة مع القلق والخوف، ذلك أن الإنسان يبدع إذا أمن من الخوف، فتنطلق مواهبه في الحياة.
وقد درس ديورانت علاقة الحضارة بالجغرافيا، مقدما فلسفته الخاصة في ذلك، فهو يرى أن «حرارة الأقطار الاستوائية وما يجتاح تلك الأقطار من طفيليات لا تقع تحت الحصر، لا تهيئ للمدنية أسبابها، فما يسود تلك الأقطار من خمول وأمراض، وما تُعرف به من نضوج مبكّر وانحلال مبكر، من شأنه أن يصرف الجهود عن كماليات الحياة التي هي قوام المدنية، ويستنفدها جميعاً في إشباع الجوع وعملية التناسل، بحيث لا تَذَرُ للإنسان شيئاً من الجهد ينفقه في ميدان الفنون وجمال التفكير، إذن فالعوامل الجغرافية على الرغم من أنها يستحيل أن تخلق المدنية خلقاً، إلا أنها تستطيع أن تبتسم في وجهها، وتهيئ سبيل ازدهارها».
لكن ديورانت مع ذلك يعطي العامل الاقتصادي قيمة أكبر أثرا في نشأة الحضارة، مستشهدا على ذلك ببلاد العرب، التي رأى البداوة سمتها المميزة، واعتبر أن قصور الموارد الاقتصادية عائق كبير يقف أمام المدنية والازدهار، رغم توافر الفتوة والذكاء، والأخلاق السامية كالشجاعة والكرم.
وعن ارتباط الثقافة بالزراعة، يرى ديورانت أن الزراعة هي الصورة الأولى للحضارة، باعتبارها عامل استقرار وتمكين يهيئ للمدنية. وهو يقول: «إن الثقافة ترتبط بالزراعة كما ترتبط المدنية بالمدينة».
ويسجل لديورانت تأكيده أن المدنية لا جنسية لها، فيقول «ليست تتوقف المدنية على جنس دون جنس، فقد تظهر في هذه القارة أو تلك، وقد تنشأ عن هذا اللون من البشرة أو ذاك... فليس هو الجنس العظيم الذي يصنع المدنية بل المدنية العظيمة هي التي تخلق الشعب، لأن الظروف الجغرافية والاقتصادية تخلق ثقافته، والثقافة تخلق النمط الذي يصاغ عليه... وإذن فالمدنية لا ترتبط بالجنس إلا بمعنى واحد، وهو أنها تجيء عادة بعد مرحلة يتم فيها التزاوج البطيء بين شتى العناصر، ذلك التزاوج الذي ينتهي تدريجياً إلى تكوين شعب متجانس نسبياً».
هل يمكن استقراء مستقبل الحضارة من خلال ماضيها؟ البعض رأى ذلك، لكن ديورانت رفض هذه الفكرة، كما رفض النظر إلى الحضارة ككائن حي لا بد أن يتطور ثم يموت.
ويؤكد ديورانت في هذا السياق على تغير سلوك الجماعات الإنسانية بتغير الظروف المكانية والزمانية، ما يعني أن تكرار الماضي والتنبؤ بالمستقبل في حضارة من الحضارات لا يمكن أن يكون سائغاً.

هل تموت الحضارات؟

وقف ديورانت طويلا عند هذا السؤال، عارضا فلسفته ومدافعا عن وجهة نظره المخالفة للكثير من المفكرين والفلاسفة. وتالياً بعضاً مما تضمنه كتابه حول هذا السؤال:
«الحضارة اليونانية ليست ميتة تماماً، ولم يذهب إلا إطارها. أما موطنها فقد تغير وانتشر. وهي باقية في ذاكرة الجنس البشري، بوفرة لا يستطيع عمر واحد أن يستوعبها بأسرها، مهما كان طوله وعمره».
«هذا البقاء المختار للعقول المبدعة هو أكثر أنواع الخلود حقيقة وخيراً».
«إن الأمم تموت، والأراضي القديمة تزداد جدباً أو تعاني من أي تغيير آخر، والإنسان المرن يلتقط أدواته وفنونه، ثم يمضي، بصحبة ذكرياته. وإذا عَمّق التعليم هذه الذكريات ووسعها فإن الحضارة تهاجر مع صاحبها، وتبني له وطناً آخر».
«إن الحضارات هي ذريات الروح العرقية. وكما تتغلب الحياة على الموت بالإنجاب، تُسلم الثقافة المسنة تركتها لورثتها عبر السنين والبحار».
«يجب ألا يزعجنا كثيراً احتمال موت حضارتنا مثلما ماتت أية حضارة أخرى... وربما كان من المرغوب فيه أن تتخذ الحضارة أشكالاً جديدة، وأن تكون للحضارات والمراكز الجديدة دورتها».
«الحضارة العظيمة لا تموت كلية، فقد بقيت المنجزات العظيمة بعد كل تقلبات الدول الصاعدة والساقطة... وهذه هي عناصر الحضارة، تم الحفاظ عليها بصورة متماسكة خلال رحلتها الخطرة من حضارة إلى أخرى تالية، تشكل النسيج الرابط للتاريخ الإنساني.

من أقواله

عقلك كالمظلة، لا يعمل إلا إذا انتفخ.
المشكلة في معظم الناس أنهم يفكرون بأمنياتهم أو بمخاوفهم، بدلاً من أن يفكروا بعقولهم.
لا شيء يُعلّمُ الإنسان أكثر من الصدمات واهتزاز المشاعر.
إن الوضع الدولي كله فاسد. هكذا كان، وهكذا سيظل. ولا أجد سببا يدعو إلى التغير إن كتاب العالم كإرادة حرة ل«شوبنهور» خال من تعقيدات كانت «وتشويش» هيجل «وهندسة» سبينوزا. معظم التاريخ ظن، وبقيته من إملاء الهوى.

دروس التاريخ

كتاب من تأليف ويل ديورانت وزوجته ارييل، طبع عام 1968، يقدم الكتاب ملخصًا لاتجاهات التاريخ التي تمت ملاحظتها عند الانتهاء من المجلد الحادي عشر «قصة الحضارة».
وكشأن المؤرخين الكبار، فقد لاحظ ديورانت أن هناك أحداثاً وتعليقات قد تضيء على الشؤون الراهنة في زمنه، ومن هذه الأحداث أو الاتجاهات، ما يشير إلى المستقبل، أو ما يتعلق بطبيعة الإنسان، وأيضا سلوك الدول.
و«دروس التاريخ» أو كما يطلق عليه أحياناً «عظات التاريخ» يقدم لمحة عن الأحداث والتجارب والدروس التي أثرت في مسيرة نحو 5000 سنة، من تاريخ العالم، وفي الكتاب، تم التدقيق في هذه الدروس حيث رأى ويل ديورانت وزوجته ارييل أن يقسموها إلى 12 بندا، لها صلة بالجغرافيا، علم الأحياء، العرق، الشخصية، الأخلاق، الدين، التاريخ، الاقتصاد، الاشتراكية، دراسة استقصائية موجزة لثقافة وحضارة الجنس البشري، الحكومات، والحرب والنمو والانحطاط والتقدم. وبالتالي فإن «دروس التاريخ» هو نتاج عمر من البحث، قام به المؤرخان الحائزان على جائزة بوليتزر، ويل وارييل ديورانت.
هو كتاب لاستكشاف إمكانيات وحدود الإنسانية، عن تلك الحياة العظيمة والأفكار عبر فترات الحروب والاحتلال.
و«دروس التاريخ» بهذا المعنى، يمكن اعتباره تحفة تاريخية، ونسخة مصغرة من الأعمال التي أنجزها ديورانت في حياته، وفيه فصل مثير للاهتمام بعنوان «الدين والتاريخ»، يستكشف من خلاله ديورانت دور الدين عبر التاريخ.

أوسكار وايلد وديورانت

كان الكاتب المسرحي والروائي والشاعر الإنجليزي من أصل ايرلندي أوسكار وايلد 1854 - 1900 من أشد المعجبين بويل ديورانت، وقد كتب عن حياة ديورانت بكثير من التقدير لهذه العبقرية التاريخية النادرة ومما قاله: «يمكن لأي شخص صنع التاريخ، ولكن هناك رجل واحد عظيم يمكنه كتابته» وأضاف قد تبدو فترة خمسين عاما فترة طويلة في التأليف، لكن هناك عملا مطولا استغرقت كتابته خمسة عقود، الكتاب هو «قصة الحضارة» أما الرجل فهو ويل ديورانت.

الأوراق المتساقطة

هو آخر كتاب شخصي صدر عن ويل ديورانت الحائز على جائزة بوليتزر واكتشف بعد مرور 32 عاما على وفاته. نشرته «وول ستريت جورنال» الجريدة اليومية الدولية الناطقة بالإنجليزية.
جاء على غلاف الكتاب «الأوراق المتساقطة»، هو عبارة عن الحكمة المقطرة لأكثر من ستين عاما في البحث عن الفلسفات والأديان والفنون والعلوم والحضارات لواحد من أعظم العقول في العالم، هو ويل ديورانت الذي يتمتع بموهبة استثنائية في جميع أنحاء العالم. وفي 22 فصلاً من الكتاب يتناول ديورانت كل شيء له صلة بالإنسان عن الشباب والشيخوخة والدين والأخلاق والحرب والسياسة والفن.
ويقدم من خلاله ديورانت نثرا جميلا برؤى عميقة، وآراء محفزة على التفكير. هو الكتاب الأخير الذي ألفه ويل ديورانت، والذي يقدم فيه استنتاجات حول مشكلات الجنس البشري، في سعي منه للبحث عن معنى الحياة.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"