500 عام من التمرد في بوليفيا

حركات السكان الأصليين وإنهاء استعمار التاريخ
03:04 صباحا
قراءة 7 دقائق

عن المؤلف

تأليف:بنجامين دانجل
ترجمة وعرض:نضال إبراهيم


بعد قرون من الهيمنة الاستعمارية، والقرن العشرين المملوء بالديكتاتوريات، دخلت الشعوب الأصلية في بوليفيا في صراع اجتماعي وسياسي من شأنه أن يغيّر البلاد إلى الأبد. كجزء من هذا المشروع، وبدءاً من الستينات، سيطر النشطاء على تاريخهم الخاص؛ من خلال العودة إلى التقاليد الشفهية ثم نقلها إلى أشكال جديدة في وسائل الإعلام. يروي الكتاب قصة تعافي البوليفيين الأصليين، وتاريخهم من التمردات والنماذج السياسية السابقة، وكيفية تأسيسهم حركات؛ من أجل الحقوق والأرض والاستقلال والسلطة السياسية.
بوليفيا دولة في أمريكا الجنوبية، وتعد خامس أكبر دول القارة مساحةً، بعد البرازيل، والأرجنتين، وبيرو، وكولومبيا. يبلغ عدد سكانها حوالي 11 مليون نسمة. عاصمتها الرسمية؛ هي سوكري، والعاصمة الإدارية هي لاباز. سُميت بوليفيا بهذا الاسم؛ نسبةً إلى سيمون بوليفار المناضل والثائر اللاتيني الذي ناضل؛ من أجل تحرير أمريكا اللاتينية من الاستعمار الإسباني.
كان الغزو الإسباني نقطة تحول لأمريكا الجنوبية.. ففي جبال الأنديز، تم تدمير إمبراطورية الأنكا، وتم تقسيم آيلوس- وهي أشكال من التنظيم المجتمعي قديمة على مر القرون في جبال الأنديز إلى مجتمعات محلية أصغر مركزية؛ لتسهيل استخراج الضرائب والأراضي والعمالة. تم إرسال الآلاف إلى المناجم في بوتوسي (في بوليفيا الحديثة)؛ للحصول على الفضة التي استولت عليها الإمبراطورية الإسبانية. ورغم استمرار مقاومة السكان الأصليين، فإن الحضارات العظيمة لأزتيك والمايا والأنكا، إلى جانب عدد لا يحصى من مجتمعات السكان الأصليين الأخرى، التي تغطي نصف الكرة الأرضية، تعرضت كلها للهزيمة تحت وطأة الاستعمار ونهبه؛ حيث إن الأمريكيتين ليستا كما كانتا عليه إطلاقاً.


التحوّل الحاسم


بالاعتماد على مصادر أرشيفية غنية، ومقابلات مع المؤلفين وقادة السكان الأصليين والمؤرخين، يصف الكتاب كيفية استغلال الحركات بطرق تعود إلى قرون من التاريخ والذاكرة الشفوية؛ لإنتاج بيانات وكتيبات وبرامج إذاعية عن تاريخ المقاومة، مستخدماً إياها كأدوات لتوسيع كفاحهم، وتغيير المجتمع جذرياً.
إن إلقاء نظرة خاطفة على خريطة أمريكا اللاتينية سياسياً في ذروة «المد الوردي» في عام 2011، سيكشف عن وجود قارة يسيطر عليها التيار اليساري كما يقول الكاتب، مضيفاً: «وقد أُعيد رسم الخريطة بسرعة في الحاضر؛ لتعكس عودة ظهور اليمين من جديد بصورة جذرية، مع بوليفيا إحدى المنارات القليلة الحمراء المعزولة إلى جانب فنزويلا وكوبا ونيكاراغوا، وفي مرحلتها الناشئة، المكسيك في عهد الرئيس إيفو موراليس وحزبه، الحركة نحو الاشتراكية (ماس)».
كانت بوليفيا أفقر دولة في أمريكا الجنوبية؛ لكنها شهدت قصة نجاح عكست اشتراكية القرن الحادي والعشرين في أمريكا اللاتينية، فقد ارتفع الناتج المحلي الإجمالي لبوليفيا باستمرار بين عامي 2009 و2013، وحظيت الحكومة بالثناء من الأمم المتحدة؛ وذلك لأعلى معدل لها في سرعة الحد من الفقر؛ حيث انخفضت النسبة بواقع 32.2 في المئة بين عامي 2000 و2012.
لكن التحوّل الحاسم لليسار في بوليفيا في القرن الحادي والعشرين ينبغي ألا يحجب تاريخها الطويل الأقل إشادة من مقاومة السكان الأصليين ل«الكراهية والعنصرية والتمييز». هذا هو التاريخ الذي يتناوله هذا الكتاب. ويستند الكتاب إلى رسالة الدكتوراه الأخيرة، التي قدمها دانغل وهو يعتمد على ال 15 عاماً التي قضاها مراسلاً للشؤون البوليفية.


إنهاء الاستعمار

يرصد دانغل حالة «السكان الأصليين الذين تعرضت أراضيهم وثرواتهم وثقافتهم ومؤسساتهم السياسية؛ بل وتاريخهم للسرقة والنهب». ويبين الدور الذي يلعبه التاريخ والذاكرة والأسطورة في حركات سكان بوليفيا الأصليين.
يقول المؤلف في مقدمته: «إننا نعيش في عالمٍ شكّله الغزو. خلال معظم التاريخ الحديث، قامت القوى الغربية بغزو واستعمار الجنوب العالمي والسيطرة عليه». يكتب إدوارد سعيد أنه بحلول عام 1914، «احتلت أوروبا ما مجموعه 85 في المئة تقريباً من الأرض كمستعمرات ومحميات ومناطق تابعة وملكيات عامة وأقاليم. ولم تكن هناك مجموعة أخرى من المستعمرات المرتبطة بها في التاريخ كبيرة بهذا القدر، ولم يكن هناك من يسيطر عليها تماماً، ولم يكن هناك أي تفاوت في السلطة بالنسبة للعاصمة الغربية. كان الهدف الرئيسي هو استخراج اليد العاملة، والحصول على الربح من إفريقيا إلى آسيا، ومن البرازيل إلى كوبا».
ويضيف: «لقد كانت لقرون الاستغلال هذه ضحاياها؛ لكن كان لها ثوارها أيضاً. لطالما ظلت القوى الغربية تحتل الجنوب العالمي وتستعمره، وبقي الناس يثورون ضد هذا الغزو، بشكلٍ عنيفٍ أحياناً، وبشكل سلمي أحياناً أخرى. لقد واجهوا البنادق بالأسلحة، والاستعباد في العمل بالعصيان، واستغلال المزارع والمصانع بالإضرابات والفرار من العمل، فضلاً عن أشكال المقاومة اليومية في الشوارع، وفي المنازل، وفي المؤسسات الحكومية».


بناء الدولة

مع مرور الوقت، هبّ السكان ضد القوى الاستعمارية، وأطاحوها في الثورات، وبنوا دولاً مستقلة ذات سيادة. وسُميت هذه العملية السياسية العالمية لاستعادة السيادة بعد الحكم الاستعماري ب «إنهاء الاستعمار». وكعملية سياسية، انطوت عملية إنهاء الاستعمار بصفة عامة على تشكيل دولة قومية مستقلة ودستور وعلم ومجموعة من القوانين ونظامٍ سياسي يقوم على أساس أحلام ومعتقدات السكان المحليين لتلك الدولة.
لم يكن الطريق العالمي نحو إنهاء الاستعمار أمراً بسيطاً. في الواقع، هذه العملية كانت واحدة من أكثر العمليات مأساويةً وتبعية في التاريخ الحديث.
ويوضح أنه حدثت إحدى الموجات الأولى لإنهاء الاستعمار بين أواخر القرن الثامن عشر وأوائل القرن التاسع عشر في الأمريكيتين. خلال هذه الفترة، تم إجبار البريطانيين على الخروج من الولايات المتحدة، وطرد الثوار القوات الفرنسية من هايتي، وإلغاء العبودية في تلك الدولة الجديدة. في أوائل القرن التاسع عشر، اندلعت حروب الاستقلال ضد إسبانيا في جميع أنحاء أمريكا اللاتينية. وأدت تلك الصراعات إلى ولادة دول جديدة مستقلة، من فنزويلا وكولومبيا إلى الأرجنتين وبوليفيا.
ويشير إلى أنه حدثت الموجة الثانية من إنهاء الاستعمار في أوروبا بين عامي 1917 و1920؛ بعد انهيار الإمبراطوريتين الروسية والنمساوية-المجرية. في أعقاب الحرب العالمية الثانية وحتى أواخر سبعينات القرن الماضي، تحرّرت المستعمرات في جميع أنحاء آسيا وإفريقيا ومنطقة البحر الكاريبي من الحكم الاستعماري الأوروبي.
ويستشهد بما كتبه فرانز فانون في اللجنة المعنية بإنهاء الاستعمار: دعونا نغادر أوروبا هذه التي لا تتوقف أبداً عن الحديث عن الإنسان، ولا تزال تقتله في كل ركن من أركان شوارعها، و في كل ركن من أركان العالم. بالنسبة للكثيرين، كانت عملية إنهاء الاستعمار عملية تقرير المصير، وترك أوروبا وراءهم بدلاً من محاولة بناء مجتمع على صورتها. وكما كتب فانون، يواجه العالم الثالث أوروبا ككتلة ضخمة يجب أن يكون مشروعها محاولة وحل المشكلات التي لم تتمكن أوروبا من إيجاد الحلول لها.


مقاومة السكان الأصليين

يتناول الفصل الأول والثاني والثالث من الكتاب صعود الكاتاريزمو، وهي حركة عرقية نقابية ثورية مارست نشاطها بين عامي 1970 و1990. ومن محاور التركيز الرئيسية الأخرى لهذا الكتاب حلقة عمل التاريخ الشفوي لمنطقة الأنديز وهي مبادرة مهمة على مستوى القواعد الشعبية ظهرت في الثمانينات في مدينة لاباز وسط اهتمام متجدد بشؤون السكان الأصليين. شمل الكثير من عمل هذا المكتب استرجاع وتسجيل التاريخ الشفوي للحركة الاجتماعية كاسيكس آبوديرادوس، وهي شبكة من زعماء السكان الأصليين الذين قاموا بحشد الموارد بخصوص الأرض والحقوق المشروعة في العقود الثلاثة الأولى من القرن العشرين.
ويقتبس دانغل من هومبرتو ماماني العضو في الحركة، الذي أوضح أن استرداد منظمتهم لتواريخ مقاومة السكان الأصليين كان مثل جمع أجزاءٍ مختلفة من رسالة ممزقة إلى قصاصات، وعندما تم تجميعها، كان بإمكاننا قراءتها كلها، ونقول: هذا هو تاريخنا. هذا هو التاريخ الذي لم نكن نعرفه، والذي تم تقسيمه إلى أجزاء كثيرة.
تكمن قوة الكتاب في الشهادات المنظمة بعناية؛ حيث يساعد المؤلف في إسماع أصوات الناشطين والمفكرين من خلال تنشيط النثر الذي يبدو أحياناً وصفياً بحتاً. ومن أبرزها إجراء مقابلات مع غريغوريو باركا، البالغ من العمر 96 عاماً؛ نجل زعيم السكان الأصليين سانتوس ماركا تولا، ومع إيفو موراليس نفسه في عام 2003، ثم مع زعيم حركة الكوكاليرو. قال موراليس، الذي كان منهمكاً في حملته الانتخابية حينها، لدانغل: نحن، السكان الأصليين، بعد خمسمئة عام من المقاومة، نستعيد السلطة، مضيفاً: استعادة السلطة هذه موجهة نحو استعادة ثرواتنا، ومواردنا الطبيعية الخاصة بنا.
يخوض دانغل في التوترات المتعلقة بمواقف موراليس بشأن حماية البيئة التي تأتي في الوقت الذي يسعى فيه إلى بناء نموذج اقتصادي قائم على الاستخراج. وقد عرّضه ذلك لانتقادات من بعض شرائح السكان الأصليين اليساريين، مثل ماما نيلدا روجاس، زعيمة المجلس الوطني لآيلوس وماركاس قولاسويو (كوناماك) وهي جمعية وطنية لجماعات السكان الأصليين تأسست في عام 1997. تقول روجاس لدانغل: لقد أعطت حكومته هذه خطاباً كاذباً على المستوى الدولي، مدافعة عن باشاماما؛ آلهة الأرض والخصوبة، ومدافعة عن الأرض الأم«بينما نجد في الواقع أن الأرض الأم تتعرض للانتهاك«.


ذاكرة العصيان


يناقش المؤلف العديد من النشطاء السياسيين، من بينهم ماركسا شافيز، وهي عالمة اجتماع وناشطة في مجتمع أيمارا، والتي تشهد على أهمية الذاكرة الاجتماعية خلال الاحتجاجات في عامي 2000 و2003 ضد سياسات الليبرالية الجديدة. تقول: عندما تجمع الناس في حواجز الطرق والاحتجاجات مع تمرد الثائر توباك كاتاري في القرن الثامن عشر، كانوا يسترجعون ليس مجرد كلمات جوفاء؛ بل فكرة القوة الجماعية...إنها حقاً ذكرى للعصيان، إنها تذكِرة، بأنكم بأنفسكم، كنتم تقومون بذلك العمل؛ من خلال الجمعيات، من خلال الاجتماعات، من خلال السيطرة التي طلبتموها من قادتكم.
في موضعٍ آخر من الكتاب، نجد أن المؤلف يهتمّ بالتفاصيل الدقيقة، فهو يقتبس من الروايات المعاصرة التي تصف بطل التمرد في القرن الثامن عشر توباك كاتاري بأنه يمتلك عيوناً ثاقبة، رغم أنها صغيرة وغائرة، إلى جانب تحركاته التي أظهرت أكبر قدر من الدهاء والحسم في القرارات.
ونجده يسلط الضوء أيضاً على علماء السكان الأصليين الذين قاموا خلال القرن الماضي بإنهاء استعمار التاريخ، والنبش في ذاكرة كبار السن وأسلافهم، كما يبحث عن التاريخ الموروث من جيل إلى آخر، ولكن لم يتم تسجيله في مكتبات بوليفيا وأرشيفها.
يمكن القول في الختام إن عمل دانغل يتميّز بأهمية كبيرة للمهتمين بالحركات الاجتماعية في أمريكا اللاتينية والسجلات التاريخية للسكان الأصليين وإنهاء الاستعمار. الكتاب صحفي في أسلوبه، ويشكل مورداً مفيداً للمعلومات حول بوليفيا.


نبذة عن المؤلف


** حصل بنجامين دانجل على درجة الدكتوراه في تاريخ أمريكا اللاتينية من جامعة ماكجيل، وعمل صحفياً في جميع أنحاء أمريكا اللاتينية لأكثر من خمسة عشر عاماً؛ حيث غطى السياسة والحركات الاحتجاجية لصحف ومجلات ومواقع صادرة بالإنجليزية.
** وهو مؤلف كتاب ثمن النار: حروب الموارد والحركات الاجتماعية في بوليفيا، والرقص مع الديناميت: الحركات الاجتماعية والدول في أمريكا اللاتينية.
** يقوم دانجل بتحرير موقع TowardFreedom.org، الذي يتناول أبرز الأحداث العالمية، ويحاضر في كلية شامبلين.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن المترجم

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"

المزيد من الكتب والكتاب

جنود في كشمير
فرحان م. تشاك
1
داون سي ميرفي
1
مايكل كريبون
لاجئون سوريون في تركيا
لميس علمي عبد العاطي
1
ديزيريه ليم
1
جيمي دريبر
1
جورج ج. فيث
1
باسكال بيانشيني وندونجو سامبا سيلا وليو زيليج