عادي
الطفولة مهد الذكريات

«ليلة في ليما».. بيسوا يتحصن بالشعر ضد قسوة الحياة

03:18 صباحا
قراءة 4 دقائق

الشارقة علاء الدين محمود

أشعار وشذرات الشاعر البرتغالي فرناندو بيسوا «1888- 1935»، الذي يعد أحد أهم الشخصيات الأدبية في القرن العشرين، هي نصوص هائمة في ملكوت الأدب، والفلسفة، والروح، والجمال، تُعنى بتناقضات الحياة، هي أناشيد للألم، والبؤس، والأوجاع، والموت، والفرح، والسرور، والسعادة، فالحياة، بحسب شاعرنا جديرة بالعيش رغم قسوتها، ومرارتها، وقد جعل من قصائده مضاداً حيوياً يسري في وريد جسد الحياة المعتل، هي نصوص بعمق فلسفي، تعبر عن موقف عالق ومتأرجح للشاعر بين أمنياته، وواقع الحياة، وهو ما يقصده بقوله «أنا هذه المسافة بيني وبين نفسي»، لذلك يطلق عليه في البرتغال، إلى جانب الناقد والأديب والمحلل السياسي، وصف الفيلسوف، وشاعر اللاطمأنينة.

عاش بيسوا تفاصيل حياة شديدة القسوة، تمتلئ بالصعوبات والأحداث المأساوية، حيث توفي والده بعد ولادته بخمس سنوات، بعد إصابته بمرض التدرن الرئوي، وكذلك توفي أخوه الأصغر «خورخي»، ولم يكن مستقراً، فبعد زواج والدته مرة أخرى عاش حياة ترحال، حيث انتقل إلى جنوب إفريقيا، لكنه كان متفوقاً في دراسته، وواصل تعليمه، وبدأ دراسته الجامعية هناك، وحاول أن يكملها عندما عاد للعاصمة البرتغالية لشبونة، لكن دخوله معترك الحياة السياسية مناضلاً ضد رئيس الوزراء البرتغالي «جواو فرانكو»، وضع حداً لمسيرته الدراسية، وأجهضها تماماً، لكنه عمل في مجال الترجمة ليواجه مطالب الحياة نسبة لفقره المدقع، وظل يتنقل من غرفة إلى أخرى، بسبب مطاردة أصحاب المنازل له، ولكن رغم الفقر، ظل شاعرنا يقاتل ويناضل من أجل الحب والجمال، فقد كان مصراً على الاستمتاع بالحياة، وربما ذلك الدافع جعله يعيش في أحيان كثيرة في واقع افتراضي حالماً منفصلاً عن الواقع، ومارس لعبة الاستخفاء تحت أسماء مستعارة كثيرة طوال حياته، وكان كل اسم مستعار هو بمثابة عنوان لحياة غير واقعية، وشيد لنفسه جزيرة خاصة به، سوّرها بالشعر الذي يراوغ قسوة الحياة.

عرف القراء العرب بيسوا، عبر أعماله العديدة المترجمة إلى اللغة العربية، ومنها: «الباب وقصص أخرى»، و«يوميات»، و«راعي القطيع»، و«كتاب اللا طمأنينة»، و«أناشيد ريكاردو رييس»، وقد وجدت قصائده وشذراته صدى وقبولاً كبيراً في العالم العربي، حيث احتفى به القراء والنقاد، وقد مثلت حياته وأسلوبه الشعري في مغازلة حياة قاسية، نوعاً من الإلهام لكثير من الشعراء العرب الذين تأثروا به.

نص فارق

تعد قصيدة «ليلة في ليما»، من النصوص الفارقة في حياته الشعرية، فهي من القصائد المتأخرة، ويستدعي فيها طفولته وحياته الباكرة، بعد أن استبد به المرض في سنوات عمره الأخيرة، خاصة في الفترة من 1930، إلى 1935، فقد تدهورت صحته بصورة سريعة، بسبب تليف الكبد الذي قضى عليه، وفي تلك الفترة التي عاش فيها بين الواقع والهذيان تحت ثقل المرض، ألّف نصوصاً عاد فيها بمخيلته الخصبة إلى مراتع طفولته، وأكثر فيها من ذكر والدته التي أحبها كثيراً، وفي «ليلة في ليما»، تبرز الأم في صور ومشاهد متعددة، فهذه القصيدة هي بمثابة شريط ذكريات عبر في أفق الشاعر، وكذلك يذكر شقيقته والحياة الوادعة التي ودعها باكراً، ويسافر عبر الذاكرة إلى جنوب إفريقيا في الفترة التي عاشها هناك، فهذا النص كُتب بمداد الصدق، والعفوية، فهو يعبر عن مشاعر حقيقية، ودفق شعوري شفيف، وتداع حر للذكريات، لذلك عده الشعراء والنقاد من أعمق قصائد بيسوا، وأكثرها صدقاً، فالشاعر في هذا النص البديع يتخلى عن تلك الحمولة الفلسفية الثقيلة التي سكنت معظم نصوصه، ليتسلل إلى قلب النص.. ليصنع ما يشبه الحلم العابر، يقف فيه الشاعر في محطات جميلة من حياته، والقصيدة طويلة جداً، ومن أشهر أبياتها:

«ذات ليلة في ليما/ غلالة الدمع لا تعمي عيوني/ أنا أرى، فيما أبكي/ ما تعيده لي الموسيقى/ الأم التي كانت لي/ المنزل القديم/ الطفل الذي كنتُ/ رعبُ الزمن، لأنه يمضي/ رعب الحياة، لأنها ليست سوى قتل/ أنا أرى وأتلاشى/ في إغماءة حيث أنسى؛ أنني ما زلت موجوداً في هذا العالم/ أشاهد أمي تعزف/ وتلك الأيادي البيضاء الصغيرة/ التي لن تداعبني أبداً لمستها/ تعزف على البيانو، متفانية وهادئة/ ذات ليلة في ليما/ آه، أنا أرى كل شيء بوضوح/ أنا مرة أخرى هناك/ أشيح بعيوني التي رأت/ عن ضوء القمر الشحيح في الخارج/ لكن ماذا؟ أنا أهذي فيما توقفت الموسيقى/ أهذي كما كنت هاذياً دائماً/ من دون التحقق ممّا أنا في أعماق روحي/ من دون إيمان حقيقي أو قانون ثابت/ أهذي، أخلق أبديات تخصني وحدي/ في أفيون من الذاكرة والهجر/أنصّبُ ملكات رائعة/ لا قدرة لي على تتويجهن».

ترنيمة

قصيدة تحلق في عوالم من الجمال والسحر، هي بمثابة ترنيمة غنائية لما فيها من عذوبة حس، وموسيقى دافئة، وأناقة مفردات، وفيض من الشجن الخفي، وبساطة تخرج من قلب طفل، ولقد كان بيسوا بالفعل في أخر حياته طفلاً كبيراً، ضاع منه كل شيء ولم يتبق له غير ذكريات هي التي شكلت قوام القصيدة.

لقد كان بيسوا عبر أشعاره ينسج تفاصيل حياة أخرى، وهذا ما يشير أليه هو بنفسه عندما يقول: «ليس الأدب سوى اعتراف بأنّ الحياة لم تعد تكفي»، وهذا ما فعله في القصيدة، فعندما اشتد عليه الوجع والألم، هرب إلى الطفولة وذكرياتها، إلى حضن أمه، وقد كانت أيام شاعرنا الأخيرة ملهمة جداً، وهذا ما أغرى الروائي الإيطالي «أنطونيو تابوكي»، بالكتابة عنه في رواية حملت عنوان «هذيان».

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"