عادي
قراءات

ابن شهيد.. شاعر وادي الجن

05:20 صباحا
قراءة 3 دقائق

القاهرة: الخليج

أوصى ابن شهيد الأندلسي صاحب «رسالة التوابع والزوابع» أن يكتب على قبره في لوح رخام: «بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ» ( قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ)، هذا قبر أحمد بن عبد الملك بن شهيد، المذنب، مات وهو يشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، وأن محمداً عبده ورسوله، وأن الجنة حق، وأن النار حق، وأن البعث حق، والساعة آتية لا ريب فيها، وأن الله يبعث من في القبور، مات في شهر كذا من عام كذا، ويكتب تحت هذا النثر، هذا النظم».

هنا ذكر مقطوعة من الشعر مطلعها: «يا صاحبي قم فقد أطلنا... أنحن طول المدى هجود».

ليس في أخبار ابن شهيد إشارة إلى السنة التي أنشأ فيها «رسالة التوابع والزوابع» لكن المستشرق بروكلمان ذكر أنها صنفت قبل «رسالة الغفران» لأبي العلاء المعري بعشرين سنة، والمعروف أن أبا العلاء أملى رسالته في عزلته سنة 424، وطبقا لرأي بروكلمان فإن ابن شهيد كتب رسالته في سنة 404، وقد توفي ابن شهيد سنة 426 أي بعد ظهور «رسالة الغفران» بعامين.

وقد ذهب د. شوقي ضيف في كتابه «بلاغة العرب في الأندلس»، إلى أن ابن شهيد في «التوابع والزوابع» كان يقلد أبا العلاء في «رسالة الغفران» وكانت حجته في ذلك أن شهرة أبي العلاء كانت ذائعة في المشرق والمغرب، وأن أهل الأندلس كانوا يقلدون المشرق في كل شيء، ورجح زكي مبارك أن أبا العلاء هو الذي حاكى ابن شهيد في رسالته. ويعقد د. علي أدهم مقارنة بين الرسالتين، فيوضح أن أبا العلاء حاول محاكاة ابن شهيد، الذي جعل وادي الجن مسرح رسالته، أما أبو العلاء فجعل مسرحها الجنة، وكلاهما عني بإظهار ثروته اللغوية وقدرته الإنشائية، ولم يكن ابن شهيد بطبيعة الحال، على قدر سعة إطلاع المعري وإحاطته بالمشاكل العقائدية والفكرية، فقد كان قليل الصبر على طلب العلم، كثير الاعتماد على ذهنه وقلبه.

وتتفق الرسالتان في إتباع طريقة الحوار في عرض المسائل الأدبية، ورسالة التوابع بطلها ابن شهيد نفسه الذي كان يتصدى لتوابع الشعراء والكتاب ليفحمهم بجودة شعره، وسرعة بديهته، وبراعته في النقد، أما أبو العلاء فكان يستتر وراء «القارح» الذي كتب رسالته ردا على الرسالة الواردة إليه منه، وابن شهيد كثير المفاخرة بنفسه، وقد عاش ملء حياته، وأطلق لنفسه العنان، وقد اكتفى في رسالته بإظهار تفوقه على نظرائه من الشعراء والكتاب، والسخرية من خصومه.

وقد اختار ابن شهيد لرسالته اسم «التوابع والزوابع» لأنه جعل مسرحها عالم الجن، وجعل أبطالها جميعهم من الشياطين وليس بينهم من الأنس سواه، والتوابع جمع تابعة أو تابع، وهو الجن أو الجنية، يصحبان الإنسان ويتبعانه أينما ذهب، والزوابع جمع زوبعة، ويطلق على الشيطان أو رئيس الجن، والرسالة قائمة على هذه الرحلة الخيالية إلى عالم الجن، واتصال ابن شهيد خلالها بشياطين الشعراء، ومنافستهم ومناشدتهم الشعر، ومبادلتهم النقاش في الأدب والنقد والموازنة بين الشعراء والكتاب.

ولد ابن شهيد في قرطبة سنة 382 هجرية في عهد المنصور بن أبي عامر، وكان له من ثراء أسرته وسعة نفوذها، وعمق صلتها بالأسرة الحاكمة، ما يكفل له المستقبل ويغريه بالإقبال على متع الحياة، وقامت فتنة اضطرت الكثيرين إلى مغادرة قرطبة، واللجوء إلى بلاط يحيى بن حمود وكان منهم والد ابن شهيد، وقد امتدت حياة ابن شهيد من سنة 382 إلى سنة 426 هجرية انهارت خلالها الخلافة الأموية، واستعان الأمراء والخلفاء المسلمون ببعضهم على بعض باستدعاء الإسبانيين، وكانت هذه الأحوال تضطر ابن شهيد إلى الانغماس في السياسة والتقرب من الحكام ليحفظ رأسه، لكنه لم يسلم من الأذى، فقد سجن، وتمكن الناقمون عليه من النيل منه، وكان هو من ناحيته يكيل لهم الصاع صاعين، ويرد ضرباتهم بأشد منها.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"