عادي
يخرج من دائرة النجوم والمشاهير ليتكئ على جهود شباب مبتدئين

«فيلم كتير كبير» ..شغف وعفوية وحرفية وكثير من الواقعية

02:06 صباحا
قراءة 6 دقائق
مارلين سلوم

كان يكفيه أن يقف على خشبة مهرجان «مراكش»، وأن ينال إعجاب مخرج من وزن فرانسيس فورد كوبولا، ويتسلم «النجمة الذهبية» منه شخصياً، كي يصبح «فيلم كتير كبير» بكل معنى الكلمة. ولو لم يكن «كتير كبير»، لما استحق هذا الفيلم اللبناني أن تُفتح أمامه أبواب مهرجان «تورونتو»، والوصول إلى لندن وتالين وتسالونيك والدوحة.. فيلم وصل إلى الجمهور أيضاً فأحبه، وهو اليوم في صالات الإمارات، ويستحق المشاهدة.
لا تبحث عن اسم بطل تعرفه أو مخرج مشهور وقف خلف كاميرته، وأدار فريقاً من النجوم، فكان فيلماً كبيراً استحق الجوائز، واليوم يستحق منك أن تذهب إليه في الصالات لتشاهده. ككثير من الأفلام اللبنانية بل بالأحرى العربية الحديثة، يخرج «فيلم كتير كبير» من دائرة الاعتماد على أسماء النجوم والمشاهير، ليتكئ على جهود شباب قرروا خوض غمار السينما بشغف كبير، فقدموا كل ما يملكونه من أفكار جديدة، وتقنيات، وخرجوا من إطار المواضيع المكررة، مستعينين طبعاً بمنتجين وشركاء يمدونهم بالتمويل اللازم ليخرج الفيلم الطويل بهذا المستوى الجيد، والذي يليق به أن يندرج في قائمة أفلام المهرجانات المرغوبة جماهيرياً. وهذه نقطة مهمة، إذ إن بعض الأفلام تجده يصلح للمهرجانات فقط، بينما يعرض عنه الجمهور في الصالات ولا يحقق إيرادات تُذكر، وغالباً ما تجد هؤلاء المخرجين لا يعنيهم شباك التذاكر، لأن عينهم أساساً كانت ولاتزال على الجوائز والمهرجانات العالمية.
عموماً «فيلم كتير كبير» ليس من هذه النوعية، ورغم تضمنه الكثير من الشتائم، إلّا أنها جاءت في السياق الطبيعي للقصة، وزادت من جرعة «العفوية» والبساطة والواقعية التي حرص عليها المخرج ميرجان بوشعيا في فيلمه الأول. هذا الشاب الذي قدم في البداية فيلمه كمشروع تخرج جامعي، وكان وقتها مجرد فيلم قصير يحمل اسم «فيلم كبير»، إلّا أن الطالب ميرجان تأثر بنصيحة أحد السينمائيين المعروفين، فعمل على توسيع قماشة فيلمه ليحوله إلى فيلم «كتير كبير»، والفيلم الطويل احتاج إلى إعادة كتابة وإنتاج ضخم، فدخل شقيقا ميرجان، لوسيان وكريستيان، شريكين معه، ليؤسسوا شركتهم «كبريت بروداكشن»، وليكون هذا العمل هو باكورة إنتاجها.
تستغرب اسم الفيلم، لكنك تكتشف مع مرور الأحداث، أنه فيلم ضمن فيلم. الأول مصنوع بحرفية وجدية، والثاني مصنوع لأهداف تخدم صاحبها، فيكشف من خلاله المخرج ميرجان بوشعيا كيف يتحكم المنتج أحياناً بالأفلام السينمائية، ويصبح هو الآمر الناهي، يتدخل في القصة والسيناريو وفي التصوير وعمل المخرج، خصوصاً إذا كان هذا المخرج ضعيف الشخصية مثل شربل (فؤاد يمين).
بطل القصة هو الممثل آلان سعادة، الذي يعتبر مفاجأة حقيقية في أول ظهور له على الشاشة. فمن خلال أدائه دور زياد الحداد، الذي يعمل في تجارة المخدرات، وقد ورث وشقيقيه جاد (وسام فارس) وجو (طارق يعقوب)، عن والدهم بيتاً صغيراً ومخبزاً لصنع البيتزا. بهذا الدور يبدو آلان ممثلاً تلقائياً عفوياً، وكأنه لا يعير للكاميرا أي اهتمام، وتظهر أيضاً براعة ميرجان في الإخراج، فتبدو لقطاته كما يبدو كل الممثلين وكأنهم يتصرفون بتلقائية شديدة، فيشعر المشاهد بأنه أمام شريط فيديو «عائلي»، يمر بسلاسة من دون أن يتخلى عن الحرفية والصورة الجميلة، والمؤثرات، والصناعة السينمائية الجيدة، حيث الكل أبطال، والكل متميز في موقعه.
يبدأ الفيلم بمشكلة بين الإخوة الثلاثة وأحد الشباب، الذي يقضي عليه زياد برصاصة قاتلة من سلاحه الذي يكاد لا يفارقه. يتم التحقيق مع كل منهم، ولأن زياد من «أصحاب السوابق»، يصر المحقق في مركز الشرطة على الضغط على الإخوة الثلاثة للاعتراف بالحقيقة، ليزج به في السجن، لكنهم يصرون في المقابل على أن جاد هو القاتل عن غير قصد وبهدف الدفاع عن النفس. ولأن جاد صغير في السن نوعاً ما، وهي المرة الأولى التي يتورط فيها بمشاكل، يصدر الحكم بسجنه خمس سنوات.
بعد خروج جاد من السجن، يقرر زياد التوقف عن المتاجرة بالمخدرات ليضمن مستقبلاً آمناً لشقيقيه، كما يقرر شراء مطعم لجاد. لكن «أبوعلي» المسؤول عن توزيع المخدرات لا يعجبه قرار زياد، فيحاول إقناعه بإتمام عملية أخيرة ويستدرجه إلى سوريا، لتتم تصفيته هناك. زياد يشتبه بالأمر، فيقتل رجُليّ أبوعلي ويفر عائداً إلى مخبئه السري داخل بيته، ومعه شحنة المخدرات أو حبوب «الكبتاغون». ولأجل تهريبها إلى «إربيل»، تخطر له خطة أثناء حديثه مع صديقه المخرج شربل، بينما كان هذا الأخير يعمل على مونتاج حلقة من شريط وثائقي. الحلقة يتحدث فيها جورج نصر، عميد السينمائيين اللبنانيين راوياً أحداثاً حقيقية حصلت في تاريخ السينما اللبنانية. فاكتشف زياد من خلاله أن الإيطاليين حاولوا في زمن بعيد تهريب مخدرات عبر مطار بيروت، في علب مخصصة لبكرات الأفلام، وبما أن هذه البكرات لأفلام لم يتم تحميضها بعد، فهي لا تخضع للتفتيش، ولا يتم فتحها من قبل أجهزة الرقابة الأمنية. من هنا يقرر زياد السير على النهج نفسه، من خلال إنتاج فيلم، ويجبر المخرج شربل على تنفيذه، ووفق شروطه هو. هنا ندخل في أجواء فيلم آخر، يحكي عن الطائفية في لبنان، من خلال قصة شاب مسلم يحب فتاة مسيحية، ويواجهان المجتمع ورفض أهلهما لهذه العلاقة.
ميزة ميرجان أنه قدم ملامح من الشارع اللبناني والحياة اليوم، ممزوجة بواقع السينما التي تعاني تحكم المنتجين بها، بطريقة ذكية. وإن كانت الألفاظ التي استخدمها فجة وصادمة أحياناً، وقدم الصراع الطائفي بكثير من الواقعية أيضاً، وأظهر جوانب من الانفلات الأمني، إلّا أنه حاك السيناريو بروح كوميدية طريفة غير مبتذلة، وجاءت الحبكة قوية بحيث لم تفلت منه خيوط الأحداث رغم تشعّبها، ولم يفقد المُشاهد البوصلة بل عاش الأحداث مع أبطالها حتى النهاية وتفاعل معها.
لا يخشى ميرجان تقديم المظاهر الاجتماعية كافة، التي ترمز إلى الطوائف والطائفية في لبنان، ويدفعك للضحك من واقع مؤسف ومرّ، خصوصاً حين يرفض جاد لعب دور البطل «المسلم»، وهو في الحقيقة مسيحي. فيضطر المخرج شربل إلى عكس القصة بالكامل، لتصبح زوجته مسلمة وهو مسيحي. وهنا يدخل المشهد السينمائي في الواقع الحقيقي، مع تدخل المارة في الصراع بين الزوجين، ويتحول المشهد إلى «خناقة» طائفية تنتهي بضرب وإطلاق رصاص.
جرعة الكوميديا عالية في مشاهد تصوير الفيلم الفاشل «المفتعل»، وتحكّم زياد بالمخرج وبفريق العمل. متفجرات، رصاص.. كل وسائل العنف والترهيب متوفرة لإتمام الخطة. زياد يصبح رجل أعمال، يستغل الفيلم للظهور على الشاشة، فيستضيفه الإعلامي مارسيل غانم، ببرنامجه «كلام الناس». صورة أخرى يقدمها ميرجان عن المتسلقين، الذين يستغلون الإعلام لأهداف شخصية، وكيف يتحول رجل العصابات وتاجر المخدرات إلى رجل أعمال، ولاحقاً يترشح لمنصب سياسي.
لم يستخدم المخرج ميرجان بوشعيا الإسقاطات، لأنه ذهب مباشرة إلى الواقع ليقدمه كما هو. وفي الحوار والسيناريو الكثير من الحقيقة التي أراد إبرازها، والتي عبر فيها عن وجهة نظر ولسان حال فئة من اللبنانيين. وعلى لسان بطله زياد يقول بوشعيا: «الثورة الحقيقية الوحيدة بهالبلد هي ثورة السينما». مقولة تختصر الكثير مما يعيشه لبنان اليوم، ولا شك في أنها تشير إلى نهوض السينما، وتمكنها من قول ما لا يقوله الشارع اللبناني، رغم اعترافه به ومعاناته منه.
لغة سينمائية جيدة تلك التي استخدمها ميرجان بوشعيا، مكنته من الوصول إلى المهرجانات الكبرى، ونيل رضا أحد أهم المخرجين العالميين فرانسيس كوبولا، كما أوصلته إلى الجمهور فحفظ اسمه، وينتظر منه المزيد من الأعمال الواقعية بحرفية عالية وصناعة سينمائية حقيقية.

شراكة وتأليف موسيقي

لابد للإنتاج السينمائي أن يكون عبارة عن شراكة بين مجموعة من المنتجين سواء كانوا مبتدئين، أو من أصحاب الباع الطويل في عالم الفن السابع، وفي الأغلب يضم أسماء شركات معروفة واستوديوهات عالمية وأحياناً مؤسسات إعلامية. الإخوة ميرجان ولوسيان وكريستيان بوشعيا خاضوا تجربتهم الأولى في إنتاج فيلم سينمائي بنجاح، عبر شركتهم «كبريت بروداكشن»، ويقال إن ميرجان اضطر إلى بيع منزله من أجل إنتاج فيلمه الأول، وقد شارك في دعم «فيلم كتير كبير» إلى جانب «كبريت بروداكشن» كل من «المؤسّسة اللبنانية للإرسال أنترناشيونال»، و«سوبار» (المجموعة الداعمة للفنون العربية) و«مؤسّسة الدوحة للأفلام» وميشال ألفتريادس عبر شركته «ألفتريادس ليلابوست»، وهو الذي قام بتأليف موسيقى الفيلم. هذه الموسيقى منحت الفيلم المزيد من التميز، وجاءت منسجمة مع روحه، وقد مزج فيها ألفتريادس بين الموسيقى الشرقية الشعبية والطربية.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"