عادي
معارك الكتب

والت ويتمان يفقد وظيفته بسبب «أوراق العشب»

02:54 صباحا
قراءة 4 دقائق
القاهرة: «الخليج»
يقول الشاعر رفعت سلام في مقدمة ترجمته للأعمال الشعرية الكاملة للشاعر الأمريكي «والت ويتمان» إن «أوراق العشب» ليس ديواناً منفرداً، بل إنه صرح شعري، استغرق نحو نصف قرن من حياة الشاعر، النصف الثاني من القرن التاسع عشر بكامله، هو قارة شعرية كاملة بكاملها، لم يسبق أن عرفها الأدب الأمريكي، كما أن «والت ويتمان» (31 مايو/أيار 1819- 26 مارس/آذار 1892) ليس شاعراً، بل ظاهرة شعرية فريدة، تلقي بظلالها الكثيفة على شعرية القرن العشرين، الأمريكية والإنجليزية، بل العالمية.
بدأ ويتمان كتابة قصائد «أوراق العشب» عام 1850، وعلى نفقته الخاصة طبع الديوان في مطبعة صغيرة، ديوان صغير في 95 صفحة، مطبوع في 795 نسخة، بلا اسم للمؤلف، مع الاكتفاء برسم شخصي له، وعندئذ كتب الناقد، رالف والدو إيمرسون عن الديوان: «إنني أعتبره العمل الأكثر استثنائية في اللماحية والحكمة، فيما قدمته أمريكا حتى الآن، إنني سعيد بقراءته، مثلما تجعلنا قوة عظيمة سعداء»، وفي مقاله أعلن إيمرسون عن حاجة الولايات المتحدة الأمريكية إلى شاعر جديد فريد لها، ليكتب فضائل ورذائل البلد الجديد فيما بعد.
شجع مقال إيمرسون ويتمان على المسارعة بإصدار الطبعة الثانية من «أوراق العشب» مع إضافة 20 قصيدة جديدة لها، لكن النشر أوقف أمر الطباعة، بفعل الهجوم على الديوان، بدعوى منافاته للأخلاق، وتصاعدت تحرشات المحافظين- على حد تعبير رفعت سلام- ووصلت إلى فصل ويتمان من عمله كموظف صغير بوزارة الداخلية، لأن الوزير قرأ الديوان واعتبره مزعجا، وقيل إن أحد الشعراء، قد ألقى بالديوان في النار، وكتب توماس هيجنسون إنه أمر لا يصدق أن يكون ويتمان قد كتب «أوراق العشب» ولم يحرقه بعد ذلك، أما أحد النقاد فقد كتب قراءة نقدية واعتبر الديوان «كتلة من الهراء الأحمق».
وفي الأول من مارس 1882 كتب النائب العام لمقاطعة بوسطــن أن «أوراق العشب» تشكل أدبا إباحيا، وكتب: «نحن نرى أن هذا الكتاب يخضـع لأحكــام النظام الأســاسي العام المتعلق بالأدب الإباحي، ونقترح على المالك سحبــه من التوزيع ومنع طبعه بالتالي»، وطالب النائب العام بحذف عدة قصائد، وإجراء تغييرات في البعض الآخر.
اعترض ويتمان على الرقابة وكتب إلى الناشر: إن القائمة مرفوضة مني كليا وجزئيا، ولن يتم التفكير فيها تحت أي ظروف، ورفض الناشر إعادة طباعة الكتاب، ووجد الشاعر ناشراً آخر، أصدر طبعة جديدة عام 1882، واعتبر ويتمان أن اللغط الذي أثير حول الديوان، سيؤدي إلى زيادة المبيعات، وصدرت بالفعل خمس طبعات متتالية، في كل طبعة ألف نسخة، ونفدت الطبعة الأولى خلال يوم واحد.
عانى ويتمان كثيرا في حياته، إلى أن استقر بعض الشيء في إحدى الوظائف، لكن كل شيء قد انتهى بتعيين وزير داخلية جديد في عام 1865، وهو جيمس هارلان الذي بدأ حملة تطهير بوزارته، وأصدر قراراً بإلغاء الوظائف غير الأساسية وطرد أي موظف تمثل أخلاقياته موضع سؤال، كان الوزير ينتمي إلى حركة دينية إصلاحية لإحياء كنيسة إنجلترا، وحينما رأى ويتمان يقوم بنسخ طبعة عام 1860 من أوراق العشب (كان الشاعر يحتفظ بها في مكتبه ليتمكن من مراجعة قصائده خلال أوقات فراغ العمل بالمكتب) تم استدعاؤه، وفي 20 يونيو/حزيران تلقى، مع عدد من موظفي وزارة الداخلية، قراراً بالطرد، وكان الوزير على استعداد لمنع ويتمان من العمل في أي وكالة حكومية، ولذا رفض أي محاولات لإعادة ويتمان إلى العمل.
تم العثور على عمل لويتمان في مكتب النائب العام، لكن الصحفي أوكونور قاد حملة ضد وزير الداخلية «ذي النزوع الأخلاقي» وقدم الإشادة والتحية لويتمان وعمله الشعري، وتلقــى الديوان إعجاب القراء في أوروبـا وأمريكـــا، لكن النائب العام لولاية بوسطن يقول: «نحن نتبنى الرأي بأن هذا الكتاب هو كتــاب يفتــرض اتخـاذ احتياطــات من قبل القوانيــن العامة، فيما يتعلق بالأدب الإباحي» ويقترح سحبه من التوزيع وحظر طبعاته، ويوصي النائب العام بحذف عدة قصائد، لكن ويتـمان يؤكد «القائمة كلها مرفوضة من جانبي، ولن يتم التفكير فيها تحت أي ظرف».
كان ويتمان يضيف قصائد جديدة إلى «أوراق العشب» مع كل طبعة حديثة، إلى أن ظهرت كاملة مع ما يمكن أن يطلق عليه«طبعة سرير الموت» التي وصلت إلى يد الشاعر قبل وفاته، وهو يقوم باستعداداته لاستقبال النهاية، وقد توفي بالفعل في 26 مارس 1892، وكان سبب الوفاة السل، وكشف التشريح أن إحدى الرئتين قد انهارت تماما، وأن الأخرى كانت تعمل بثمن قدرتها العادية.
بعد سنوات من وفاته يظل للشاعر الأمريكي والت ويتمان حضوره الحيوي في الذاكرة الثقافية الأمريكية، فالعروض التلفزيونية تقدمه، والموسيقيون يستلهمونه، والمدارس والجسور يطلقون عليها اسمه، أيضا محطات الشاحنات، المجمعات السكنية، المتنزهات، معسكرات الصيف، مراكز التسوق كلها تحمل اسمه، لتتحقق بالفعل نبوءته: ابحثي عني تحت نعل حذائك!
إن ويتمان، وكما يقول رفعت سلام، وهو يقدم للمكتبة العربية أول ترجمة عربية كاملة لأوراق العشب، مؤسس الحداثة الشعرية الأمريكية والإنجليزية، وصاحب الصوت الفريد، الذي رمى بظله على شعراء كثيرين في القرن العشرين ينتمون إلى ثقافات مختلفة، فقد أنزل القصيدة من علياء التأمل الذهني في القضايا المجردة إلى هموم الإنسان العابر في طرقات العالم، ليحتل هذا الإنسان قلب العقيدة.
التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"