عادي

الأخضر الإبراهيمي . .سيرة ومواقف

02:24 صباحا
قراءة 9 دقائق

خطرت لنا في الشروق قبل عام أو أكثر فكرة عقد لقاءات مع أشخاص نجحوا . كان الهدف أن نقدم تجاربهم كنماذج لشباب اهتزت ثقته بكثيرين من قادة الفكر والسياسة المنتمين إلى أجيال سابقة . فكرنا أن يعقد اللقاء خارج المكاتب والغرف المغلقة وبعيداً عن الرسميات والشكليات المقيدة للحرية الكاملة، وقررنا أن نأخذ بتجربة صحيفة فاينانشيال تايمز، فنستضيف شخصية نجري معه أو معها حواراً على غداء في مطعم من المطاعم أو على فنجان قهوة مع الحلوى في مقهى هادئ .

اندلعت ثورة يناير/كانون الثاني ولم يسمح الوقت ولا الظروف بإجراء حوارات من هذا النوع باستثناء الحوار الذي أجريته مع نبيل العربي الأمين العام لجامعة الدول العربية ونشرته الشروق في عدد يوم 16 يناير/كانون الثاني 2012 . كانت الشروق وقاعاتها قد تحولت بعد اندلاع الثورة إلى ساحات لحلقات نقاش ودوائر حوار ضمت أعداداً غفيرة من كبار السن وصغاره . هنا في الشروق وعلى امتداد شهور عدة تفاعلت الأجيال كما لم تتفاعل من قبل، وانصهرت التجارب مع المطالب وخرجت إلى مدن مصر وميادينها همم وعزائم أقوى مع همم وعزائم أخرى كانت قد سبقتها لتمارس على الأرض ومع الواقع أعمالاً شهدت الدنيا بروعتها . كانت لحظات تفوقت فيها الهمم على دواعي الإحباط وانكشف الجوهر والمعدن .

***

كان الأخضر الإبراهيمي على قائمة النماذج التي وعدت الشروق نفسها بطرحها على الأجيال العربية الجديدة . وقع عليه اختيارنا لشهرته التي اكتسبها من خبرته في السلك الدبلوماسي الجزائري ومن سمعته كخبير عالمي في تسوية النزاعات الدولية، وبخاصة النزاعات الداخلية الناتجة عن فتن وثورات وحروب أهلية . أهلته هذه الخبرة ليختاره كوفي عنان أمين عام الأمم المتحدة مستشاراً له، وليحظى بثقة الكثيرين من رجال الدولة في الغرب وإفريقيا والعالم العربي وأواسط آسيا . وهو ابن ثورتين عريقتين، ابن طبيعي لثورة الجزائر وابن بالتبني لثورة مصر عام ،1952 وهو المراقب لثورة يناير في مصر وغيرها من ثورات الربيع، راقبها منبهراً بفرحة وبقي إلى اليوم منبهراً ولكن بألم .

***

تعددت محاولات إجراء الحوار مع الأخضر الإبراهيمي . اتفقنا قبل ثورة يناير/كانون الثاني على لقاء في فرنسا وتأجل لظروف مرضه . والتقينا بعد الثورة مراراً وكنا في كل مرة نؤجل تسجيل الحوار لانشغالات الطرفين أو لظروف تتعلق بالثورة حتى جاء يوم أبلغني الدكتور نبيل العربي، أمين عام جامعة الدول العربية، أنه يفكر في تشكيل مجموعة عمل تساعده في بلورة أفكار لتطوير الجامعة العربية، أملاً في أن يأتي يوم تساير فيه الجامعة التطورات الهائلة في مجالات التنظيم الدولي والإقليمي . أراد أن تتطور الجامعة وأمانتها ومنظماتها بالدرجة التي تتطور بها قطاعات تكنولوجيا الاتصال والدبلوماسية متعددة الأطراف والدور المتعاظم للمجتمع المدني العالمي والإقليمي والتحولات الكبرى في النظام الدولي . كان الأمل أن يوافق الأخضر الإبراهيمي على قيادة هذه المجموعة التي فكر الأمين العام مع الإبراهيمي أن تضم عبد الإله الخطيب وزير الخارجية الأردني السابق والمبعوث الشخصي للأمين العام للأمم المتحدة للثورة الليبية، وعبدالرحمن العطية الدبلوماسي القطري المخضرم ووزير الدولة والأمين العام السابق لمجلس التعاون الخليجي وغسان سلامة وزير الثقافة اللبناني الأسبق وأحد كبار مستشاري الأمين العام للأمم المتحدة ومؤسس المعهد الدولي للدراسات الدولية في باريس، ونبيل فهمي السفير السابق لمصر بالولايات المتحدة ومدير معهد الدراسات الحكومية بالجامعة الأمريكية بالقاهرة وعز الدين شكري فشير الدبلوماسي المصري وأستاذ العلوم السياسية بالجامعة الأمريكية والروائي اللامع والناشط السياسي ومنهم كاتب هذه السطور . قررت أن استغل فرصة اجتماعاتنا المتكررة وإقامة الأخضر في القاهرة لمدد متفاوتة واتفقنا على عقد لقاء خاص في ضيافة صحيفة الشروق . فكان هذا الحوار .

***

بدأت علاقتي بالأخضر الإبراهيمي منذ سنوات غير قليلة . قابلته لأول مرة مصادفة مع أصدقاء مشتركين في مقهى نايت آند داي بفندق سميراميس قبل أن يهدم ويشيد مكانه سميراميس آخر مختلف المزاج والروح والمعمار والرقي . كان المقهى في ذلك الحين ملتقى عديد المثقفين والمفكرين . كنت خلال إقاماتي في الخارج أسمع عن الأخضر، هذا الشاب المتفجر ثورة وطموحاً وثقة بثورة الجزائر والثورة المصرية وبالأمة العربية . كنت في الهند عندما تردد اسمه أمامي لأول مرة . وفي الصين سمعت عنه الكثير مما ضاعف حرصي على أن أتعرف إليه عن قرب . أثار فضولي بصفة خاصة ما سمعته عن علاقته بجمال عبدالناصر الذي كان يرتاح إلى الاستماع إليه حسب ما قيل لي من شخص كان قريباً من الإثنين . لم أسأله حينذاك، أيام مقهى نايت آند داي، عن هذه العلاقة ولكني انتهزت فرصة لقاء صحيفة الشروق لأعترف له بأن فضولي لمعرفة الإجابة مازال بالقدر الذي كان عليه قبل ثلاثين عاماً، إضافة إلى ما استجد من فضول لمعرفة تفاصيل الظروف التي قادته من جبال الجزائر إلى مصر وهو شاب في مقتبل العمر .

***

وصلنا في عام ،1956 محمد بن يحيي وأنا، كممثلين لطلبة الجزائر في مؤتمر يعقد في إندونيسيا لطلبة إفريقيا وآسيا . في ذلك الوقت كانت إفريقيا وآسيا تغليان بالثورة ضد الاستعمار، وكنا نعيش آفاقاً جديدة لم تكن موجودة قبل مؤتمر باندونج . لم نكن، بن يحيى وأنا، ننوي العودة إلى الجزائر وكانت خطتنا أن نبقى في القاهرة بعد عودتنا من إندونيسيا لنقيم في مكتب جبهة التحرير الجزائرية في القاهرة . وفي القاهرة وصلتنا تعليمات بأن يتوجه محمد بن يحيى إلى يوغسلافيا ليدير مكتب الجبهة هناك، وأبقى أنا في القاهرة لأتعلم الإنجليزية قبل استلامي العمل مديراً لمكتب الجبهة في نيودلهي، وهو ما لم يتحقق إذ سرعان ما قررت الجبهة تعيين شاب آخر من شباب الثورة واسمه شريف جلال لهذه المهمة .

***

توقف الأخضر عن السرد ليرد من هاتفه المحمول على مكالمة دولية . كانت فرصة لأتأمل شريط ذكريات فرض نفسه على مخيلتي بينما الأخضر يتحدث في الهاتف . تذكرت نيودلهي حين كان شريف جلال ممثلاً لجبهة التحرير في نيودلهي، وكان كلوفيس مقصود، وهو حالياً يتولى رئاسة مركز الجنوب في واشنطن، وهو أيضاً أحد كتاب الشروق المرموقين، زميلاً زائراً يعد لشهادة الدكتوراه في معهد الدراسات الدولية في نيودلهي عاصمة الهند . تذكرت كيف استطاع شريف جلال أن يكون نجم المجتمع في العاصمة الهندية مستفيداً من سحر الثورة الجزائرية ومن ذكائه المتقد وجاذبيته التي سحر بها جميلات نيودلهي والسلك الدبلوماسي . وقد بلغني بعد أن تركت الهند أن مجتمع السينما في هوليوود اختطفه وأنه انغمس في حياة أخرى لا علاقة لها بالثورات والنضالات واختفى تماماً من الساحة السياسية .

***

تخلص الأخضر من المكالمة الهاتفية ليستطرد قائلاً إنه سافر إلى جاكرتا عندما بلغه نبأ مرض صديقه محمد بن يحيى واستلم العمل هناك ممثلاً لجبهة التحرير الجزائرية في دول منطقة جنوب شرق آسيا . كان عمره في ذلك الحين لم يتجاوز الثانية والعشرين . ومن إندونيسيا نقل إلى القاهرة مبعوثاً للحكومة الجزائرية المؤقتة، حيث كان العمل لا يتوقف ليل نهار لإنشاء وزارة خارجية تتولى الشؤون الدبلوماسية للثورة والحكومة المؤقتة . وفي شهر مارس/آذار 63 تقرر أن يشغل منصب سفير الجزائر في القاهرة .

***

عندما يتحدث الأخضر عن قاهرة تلك الأيام تلمع عيناه حنيناً وحباً وانبهاراً . أذكر أني لم أضع الكرافته، خلال معظم السنوات التي قضيتها في القاهرة، كنا نقضي الليل في بيت أو آخر أو في نايت آند داي حتى الفجر، لويس عوض ومحمد عودة ورمسيس يونان وانجي رشدي ولطفي الخولي وأحمد بهاء الدين وآخرون . كنت قريباً جداً من هيكل ولطفي ومحمد سيد أحمد . كانت أياماً ساحرة زاخرة بالنشاط والفكر والفن والأدب، وهي الأيام التي أقمت فيها شبكة علاقات واسعة بمثقفي ومفكري البلاد العربية، وبخاصة سوريا والعراق ولبنان . وإن نسيت لن أنسى الندوة التي عقدناها في الجزائر في مايو/أيار ،1967 أي قبل الحرب هناك وخلال انعقاد الندوة أعلن عبدالناصر إغلاق خليج العقبة . كانت كافة فصائل الحركة القومية العربية موجودة، كان هناك عبدالخالق محجوب وكمال جنبلاط . هناك خرجت فتح إلى العلن وتحدث فاروق القدومي باسمها لأول مرة، وكان هناك أحمد بهاء ولطفي الخولي، الذين كلفتهما الحكومة المصرية بالتوجه من الجزائر إلى أوروبا لشرح الموقف المصري قبل الحرب . كان الأمل في الندوة أن تستمر مفتوحة لتتوحد من خلالها كافة الحركات السياسية في العالم العربي . لم يتحقق الأمل بل (اندفن) يوم 5 يونيو .

***

استمر فضولي عن علاقة الأخضر بعبدالناصر يطالب بالمزيد . سألته عن عبدالناصر في تلك الأيام البائسة، أيام الهزيمة، فقال يوم 4 يونيو/حزيران كان عبدالناصر كالجبل الشامخ، ويوم 10 يونيو/حزيران كان محطماً . قبل 5 يونيو/حزيران كانت أطول فترة يستطيع قريب منه أن يجلس معه مدة لا تزيد على نصف ساعة . بعد 10 يونيو/حزيران، كان يدعوني للقاءات يستمر بعضها أحيانا إلى ساعتين أو ثلاث كان يشعر بوحدة قاسية . انفتح الحديث عن عبدالناصر وما كان له أن يتوقف ببساطة . حدث ما توقعت فقد انتهز الأخضر الفرصة ليحكي الكثير عن دور عبد الناصر وحكومته في حركة الاستقلال الجزائرية . تحدث عن الدعم المالي والسياسي والتضحيات الكبار وحشد إمكانات مصر الدبلوماسية لخدمة ثورة الجزائر وثورات عدن وإفريقيا السمراء . تحدث باستفاضة عن شحنات السلاح .

هنا تدخلت فقاطعته . كنت قد سمعت مثل غيري من شباب تلك الأيام عن قصة عاطفية أبطالها سبعة، هم الثورة الجزائرية والمخابرات المصرية وسفينة تهريب سلاح وكرواتيا والاسكندرية وميليسيا والأخضر الإبراهيمي . عرضت عليه ما سمعت وطلبت منه تصحيح معلوماتي عن هذه القصة وقصص أخرى .

***

كان والد ميليسا قبطاناً من كرواتيا رحل عنها عقب انتهاء الحرب إلى إيطاليا حيث عمل قبطاناً لسفينة تجارية تملكها الملكة دينا عبدالحميد . وعندما نشبت ثورة الجزائر قرر الانغماس في أنشطتها والعمل من أجلها بأن وضع سفينته تحت مشيئة الثوار واستخدمها في نقل أسلحة من مصر إلى الجزائر عبر إسبانيا . مات في البحر واستمرت زوجته وابنته تعيشان في الإسكندرية . يقول الأخضر إنه فور أن نما إلى علم أحمد بن بيللا نبأ وفاة القبطان الذي قدم خدمات جليلة للثورة الجزائرية أوصاني بالأسرة خيراً . وقامت علاقة عاطفية مع الابنة توجت بزواجي منها، وهو الزواج الذي أثمر أحمد وريم الصحفية المرموقة في الفضائيات قبل أن تتزوج الأمير علي بن الحسين ملك الأردن .

***

تذكرنا معاً مهمته في لبنان . عملنا معاً في تونس وكنا نتجاور عملا ومسكنا . كان بيته مزاراً شهيرًا ليس فقط لأنه كان من البيوت الأثرية حيث البهو الرحب الذي تطل عليه كافة الغرف، ولكن أيضاً لأنه كان المكان المفضل لجلسات المثقفين والسياسيين العرب والقيادات الفلسطينية . كنت هناك عندما كلفه الشاذلي القليبي ومجلس جامعة الدول العربية التوسط في الحرب الأهلية اللبنانية، وهي الوساطة التي كللت بالنجاح بانعقاد مؤتمر الطائف في 1991 الذي أنهى الحرب التي استمرت 17 عاماً . عاش الأخضر منها ثلاثة أعوام أغلبها في فندق بريستول براس بيروت تحت القصف والتهديد بالقتل . وبعد لبنان، تولى مسؤولية وزارة الخارجية الجزائرية لمدة عامين . ثم اختاره الأمين العام للأمم المتحدة مبعوثاً خاصاً في أفغانستان من يوليو/تموز 97 حتى أكتوبر/تشرين الأول 99 ورئيساً لبعثة الأمم المتحدة في كابول وتولى رئاسة المؤتمر الدولي في كابول، وبعد إقرار دستور أفغانستان في عام 2004 طلب منه الأمين العام تمثيله في العراق لمساعدة الحكومة الانتقالية . وخلال فترة توليه مسؤولية أفغانستان وضع تقريراً عن مهمة حفظ السلام عرف بتقرير الإبراهيمي، وهو التقرير الذي تبنته قمة الألفية .

وقبل أفغانستان نفذ الأخضر مسؤوليات كلفه بها الأمين العام للأمم المتحدة في هايتي ثم في جنوب إفريقيا، وفي هذه الأخيرة ترك بصماته واضحة على عملية تصفية نظام التفرقة العنصرية وكان شاهداً على انتخابات 1994 وتولي نيلسون مانديلا السلطة، وهي الفترة التي يعتبرها الأخضر أسعد فترات حياته ويفخر بها . وأعتقد أن العلاقة التي قامت بينه ونيلسون مانديلا أثرت كثيراً في توجهاته وزادته فهماً لمشكلات إفريقيا وقربا منها .

***

لم تتح لي فرصة لقاء جديد بعد صدور قرار اختيار الأخضر ممثلاً مشتركاً للأمم المتحدة وجامعة الدول العربية مكلفا بالأزمة السورية . أعرف أنه تردد طويلا قبل أن يعلن قبوله هذه المهمة وأجد له العذر . ولم تكن البداية مطمئنة فقد ووجه منذ الساعات الأولى بمناورات من جانبي الصراع بهدف امتحان صلابته ولزعزعة تفاؤله . لن أناقش هنا طبيعة المهمة وأنا غير متحمس لها، ولن أناقش أدوار أطراف الأزمة وأنا غير مرتاح لأدوارهم وتصرفاتهم ، ولن أناقش نوايا بعض أجهزة الأمم المتحدة وأنا غير مطمئن لها . ولنا عودة .

قصة عاطفية أبطالها سبعة، هم الثورة الجزائرية والمخابرات المصرية وسفينة تهريب سلاح وكرواتيا والإسكندرية وميليسيا والأخضر الإبراهيمي .

هو ابن ثورتين عريقتين، ابن طبيعي لثورة الجزائر وابن بالتبني لثورة مصر عام ،1952 وهو المراقب لثورة يناير في مصر وغيرها من ثورات الربيع، راقبها منبهراً بفرحة وبقي إلى اليوم منبهراً ولكن بألم .

أثار فضولي بصفة خاصة ما سمعته عن علاقته بجمال عبدالناصر الذي كان يرتاح إلى الاستماع إليه حسب ما قيل لي من شخص كان قريباً من الاثنين .

كنا نقضي الليل في بيت أو آخر أو في نايت آند داي حتى الفجر، لويس عوض ومحمد عودة ورمسيس يونان وانجي رشدي ولطفي الخولي وأحمد بهاء الدين وآخرون . كنت قريباً جداً من هيكل ولطفي ومحمد سيد أحمد .

يوم 4 يونيو كان عبدالناصر كالجبل الشامخ، ويوم 10 يونيو كان محطماً . قبل 5 يونيو كانت أطول فترة يستطيع قريب منه أن يجلس معه مدة لا تزيد على نصف ساعة . بعد 10 يونيو، كان يدعوني للقاءات يستمر بعضها أحياناً إلى ساعتين أو ثلاث كان يشعر بوحدة قاسية .

تحدث عن الدعم المالي والسياسي والتضحيات الكبار وحشد إمكانات مصر الدبلوماسية لخدمة ثورة الجزائر وثورات عدن وإفريقيا السمراء . تحدث باستفاضة عن شحنات السلاح .

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"