عادي
بلا ضفاف

ابن خفاجة

03:27 صباحا
قراءة 3 دقائق
هو أبو إسحق إبراهيم بن أبي الفتح بن خفاجة المولود سنة 451 هجرية في جزيرة شقر، وهي جزيرة منعزلة في شرقي الأندلس، مشهورة بجمال طبيعتها، سافر ابن خفاجة إلى عدوة بالمغرب، لكنّ شوقه إلى الأندلس اشتد فرجع إليها، ومات سنة 533 هجرية في المدينة التي ولد فيها.
لم يتزوج ابن خفاجة في حياته، وعاش حياة هادئة بعيداً عن أحداث السياسة، وفي ديوانه عدد من المدائح ولكنه لم يستذل نفسه بهذا الغرض، وعمّر ابن خفاجة طويلاً وتجاوز الثمانين، واستمتع في شبابه وكهولته بالحياة، واقتفى لذاتها مع إخوانه وأصدقائه في أحضان الطبيعة ومجالس اللهو، وفي آخر أيامه اعترته الوحشة فبكى صباه وتنسك إلى أن وافته المنية.

أقبل ابن خفاجة على الحياة والمرح والمتاع والطبيعة بكل ما أوتي من قوة، وكان لنشأته المترفة ولجمال بلدته أثر في تغذية خياله، وتكوين تأملاته، فنظر إلى الطبيعة نظرة طويلة فاحصة، ساعدته على دقة التعبير عن معانيه، وسمي بشاعر شرقي الأندلس كما سمي بالشاعر البستاني، ولقبه المقري بالصنوبري الأندلسي، تيمناً بصنوبري حلب المشرق.

لقد وصف الشاعر الطبيعة بجميع مظاهرها ومباهجها، فوصف الطبيعة الصامتة برياضها وأشجارها وأزهارها، وأنهارها، وجبالها وسمائها ونجومها وما يتصل بها من نسيم ورياح وأمطار، وكان الشعور الغالب على هذا الوصف المرح والبشر إلا ما كان من أمر وصفه للجبل، كما وصف ابن خفاجة الطبيعة الحية كالفرس والذئب وبعض الطيور فاستولت عليه الطبيعة تماما، وملكت عليه خياله وأحاسيسه، ومشاعره في مرحلة شبابه التي لم يطل الوقوف عندها، ثم مال في آخر أيامه إلى حياة قويمة من الوحدة والتفرد والزهد، وكان شديد الإحساس بالوحشة والغربة بعد فقدان الشباب والخلان فاستحال ذلك إلى الخوف من الموت الآتي لا محالة.
وفي قصيدة «الجبل» يقول ابن خفاجة:
بعيشك هل تدري أهوج الجنائب
                  تخب برحلي أم ظهور النجائب؟
يسد مهب الريح عن كل وجهة
                       ويزحم ليلا شبهه بالمناكب
وقور على ظهر الفلاة كأنه
                 طوال الليالي مفكر في العواقب
يلوث عليه الليل سود عمائم صامت
                 لها وميض البرق حمر الذوائب
أصخت إليه وهو أخرس صامت
                    فحدثني ليل السرى بالعجائب

تزهد الشاعر في آخر حياته، وأنهكته الهموم وبات يخشى الموت ويخافه، إنه يرى في الجبل ذلك الشامخ الباذخ المرتفع الذي يطاول السماء رأسه ويصعد عن الريح كل وجهة، ويزاحم الليل، فأي جبل هذا، وأي خيال يرى في الجبل مزاحماً للسماء ومنافساً لنجومها ؟، والجبل يصنع كل هذا، وهو حيث هو على ظهر الفلاة رزين متزن وقور، مطرق رأسه تفكيرا وتأملا فيما ستؤول إليه الطبيعة والحياة، وقد اعتمّ هذا الشيخ الوقور من الغيم الأسود عمامة، واتخذ لها من وميض البرق ذوائب.

اعتمد ابن خفاجة في قصيدة الجبل أسلوب الحكاية والحوار المبني على التشخيص وهو أقرب أسلوب إلى استثارة القارئ وإمتاعه، وبخاصة تلون هذا الأسلوب بألوان الحزن والحسرة والألم والتأمل، والخوف والاسترحام والتوسل.

وقد امتزج شاعرنا بالطبيعة امتزاجا كليا وبخاصة في قصيدة الجبل التي بلغت أبياتها ستة عشر بيتا، وقد أسقط على الجبل خلاصة تجاربه في الحياة، وتأملاته في النهاية المحتومة التي تنتظره، كل ذلك في ألم وحزن وأسى، وهو من عبّ من الحياة حتى الثمالة.
وجاءت القصيدة ذات قافية بائية متحركة وبحر طويل يتناسب مع دفقات أحزان الشاعر وآلامه وتأملاته وتجاربه، وتحسره على زمان انقضى كان فيه سيد المجالس وزينتها، كما يتلاءم مع عمق تجربة الشاعر وطول نفسه، كما أشجانا الشاعر وأطربنا بلغة جزلة رصينة معبرة مجسدة لنا فيها من الطبيعة لونها ومذاقها.

نجاة الفارس
[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"