عادي
تحلم بأن تصبح طبيبة وضنك المعيشة يعيقها

القضاء ينصف مواطنة بالأوراق الرسمية بعد 19 عاماً

00:56 صباحا
قراءة 7 دقائق
الشارقة يمامة بدوان:

وأخيراً تمكنت «ف» ابنة الواحد والعشرين ربيعاً، من إثبات نسبها لوالدها الإماراتي «بيولوجياً»، بعد أن تخلى عنها 19 عاماً، على اعتبار أنها «النقطة السوداء» الوحيدة في حياته، إلا أنها وبدعم عائلتها التي احتضنتها طوال هذه المدة، ولا تزال، تمكنت من الحصول على أوراقها الثبوتية، وبقرار من المحكمة وبتصديق من أعلى المستويات في الدولة، تمكنت - حسب قولها - من الحصول على اعتراف بوجودها، على الرغم من محاولات والدها البيولوجي التهرب من مسؤولياته.

وعلى مدار ساعتين، روى وليد عطايا (الوالد الحاضن) فلسطيني الجنسية، يقيم في الدولة منذ 37 عاماً، تفاصيل القصة ل «الخليج» التي تقشعر لها الأبدان، منذ أن تسلم الفتاة وهي رضيعة في «اللفة»، وحتى باتت على أبواب تحقيق حلمها بأن تصبح طبيبة.
حكاية تراجيدية بامتياز، عاشت مرارتها فتاة وذووها، إلى أن قادتها المصادفة للوصول إلى «جهات عليا»، كانت الأخيرة تبحث عنها على مدار 4 سنوات، لمنحها أوراقها الثبوتية، المتمثلة بجواز السفر وبطاقة الهوية وخلاصة القيد، وقد تحقق ذلك على وجه السرعة، فالفتاة إماراتية القلب والدم.

البداية

يقول عطايا: تعود بداية الحكاية إلى العاشرة ليلاً من صيف عام 1995 حينما طرق «أ. ف» أردني الجنسية، وهو رب عملي باب المنزل حاملاً بين يديه رضيعة ترتدي ملابس أنيقة وقال إنها طفلته سيتركها برعاية زوجتي 10 أيام فقط.

لم أتردد في قبول طلبه، خاصة أن زوجتي ستجيد تربية طفل رابع، إضافة إلى أبنائنا الثلاثة.

طوال 5 سنوات، وكلما سألته عن الأب الحقيقي لهذه الطفلة، كان يهرب من الإجابة، فأخبرته بأنها أصبحت في سن تخولها دخول المدرسة، وذلك مستحيل كوننا لا نملك سوى نسخة عن شهادة ميلادها، التي تثبت أنها إماراتية الجنسية، وهو أمر يصعب التعامل معه في أي من المدارس.

هنا يصمت عطايا قليلاً، تخونه الكلمات في التعبير عن مكنونات صدره، تهطل الدموع من عينيه، فهو يروي حكاية كأنها مسلسل دراما يدمي القلب، ثم يواصل حديثه: عندما طلبت من «أ.ف»، أي ورقة ثبوتية كي نقوم بتسجيل «ف» في المدرسة الابتدائية، شعرت بالصدمة عندما أحضر لي شهادة التطعيم الخاصة بالطفلة، لنتفاجأ بأنه ليس والدها، بل مجرد وسيط، الأمر الذي دفعنا لإدخالها ك «مستمعة» في إحدى مدارس الشارقة.

ويضيف : إن اسم الوالد نزل على رأسه كالصاعقة، فهو «ع. ب. م» إماراتي الجنسية، وكان معهم في العمل ذاته، بل كان يتناول القهوة برفقته كل يوم، ولم يذكر أمامه أن لديه طفلة من زواج شرعي، لكنه استمر لبضع سنوات قبل أن يعلنه للجميع.

الجيران

ويشير إلى أسئلة بات يرددها جيرانه عن حقيقة هذه الطفلة، فهي ليست من صلبه، لكنها تناديه «بابا»، كما أنها تنادي زوجته «ماما» بل إنها «المدللة» الأكثر بين أبنائه الأربعة، لا يرفض لها طلبا، حتى لو كان بعد منتصف الليل، إضافة إلى أنها لا تشبه أياً من أبنائه. ويتابع: عندما بلغت «ف» 7 سنوات، منعتها المدرسة من حضور الحصص كمستمعة، كونها لا تملك أي أوراق ثبوتية، حينها بدأت تتساءل عن السبب، وأخبرنها بحقيقة الأمر، تقبلت ذلك بكل براءة، لكنها قالت «أنتم أهلي».

هنا، تتدخل والدتها الحاضنة بالحديث، موضحة، أنه لدى ايقاف «ف» عن الذهاب إلى المدرسة، ولمدة عامين متتاليين، لم ترغب بأن تشعر باختلافها عن الآخرين، حيث شجعتها على الذهاب إلى المسجد، لتستمع إلى الإمام وهو يتلو الآيات القرانية، فكانت النتيجة حفظها سبعة أجزاء من كتاب الله، بل وتم منحها شهادة في ذلك، وهو أمر جعلنا نفخر بها، لذكائها الحاد، وفطنتها التي ساعدتها على حفظ هذه الأجزاء، بالرغم من عدم إلمامها بالقراءة والكتابة، حيث كانت تعتمد على أُذنها فقط.

متاهة

يعود عطايا لمتابعة سرد الحكاية، قائلاً: بعد أن أمضت «ف» سنتين في البيت، ومن دون الذهاب إلى المدرسة، ذهبت إلى أحد مراكز الشرطة، وقدمت بلاغاً ضد الأب الحقيقي، حيث أصيب الضابط بالدهشة، ولم يصدق الأمر، إلا بعد أن قدمت له نسخة عن شهادة ميلادها، لكنه أخبرني أنها «جريمة لا تغتفر».
ويضيف: في اليوم التالي أخبرت رب عملي «أ. ف» بالشكوى التي تقدمت بها ضد الصديق المشترك والد الطفلة، ولشعوره بالخوف طالب الأخير بالحضور إلى الشارقة لاصطحاب طفلته، وبالفعل اصطحبها برفقته لمدة 3 أيام.

هنا، لم تتمالك «ف» نفسها، تشارك بالحديث، وصوتها مكسور، كجدول ماء بالكاد نسمع خريره، قائلة: أذكر تلك الأيام الثلاثة، فهي مدة الغربة التي عشتها بعيداً عن عائلتي «ماما وبابا»، وهي من أشد الليالي سواداً.

من جديد، تصمت لبرهة من الوقت، لتتابع بصوت مبحوح: عندما وصلنا ليلاً إلى الفيلا حيث يسكن، تركني وحيدة في السيارة، وذهب إلى الداخل ليسأل زوجته عما إذا كانت تقبل بوجودي، وكأي طفلة يعتريها الفضول، استرقت السمع حيث يخيم السكون في ساعات الليل، لتقع كلمات «أمي البيولوجية» على قلبي الصغير كالقنبلة، وهي تقول له «مستحيل أن تطأ قدماها هذا البيت».
وتتابع: عاد أدراجه إلى السيارة يجر الخيبة خلفه كظل ثقيل، وقال «ستذهبين للإقامة لدى صديق وزوجته، فأنتِ غير مرحب بك في الفيلا»، وهذا ما حدث بالفعل، ومرّت الأيام الثلاثة كأنها سنوات، إلا أنني كنت دائمة الاتصال بأهلي الذين ترعرعت في كنف بساطتهم وحبهم للحياة، وطلبت منهم العودة إليهم، وبالفعل جاؤوا إلى حيث أسكن، واصطحبوني من منزلي بالشارقة.

تعُهدّ

وبسؤاله عما جرى بعد هذه الواقعة، يوضح عطايا: كان شاقاً أن نرى «طفلتنا» من دون الاعتراف بوجودها، الأمر الذي دفعني لمطالبة والدها البيولوجي بضرورة إيجاد حل، حيث قام باستخراج شهادة ميلاد مصدقة للطفلة، وقدم لنا نسخة منها، وتعهد أن يتابع الإجراءات، باستخراج جواز سفر لها، شرط أن تبقى في عهدتنا، من دون أن نطالبه بأي نفقة لها.

ويتابع: قمنا بإعادتها إلى المدرسة، لتواصل تلقي علومها في الصف الخامس، «مستمعة» أيضاً، وكلما تواصلت مع والدها لسؤاله أين وصل إصدار جواز السفر، يأتي جوابه المعتاد «غداً.. غداً».

ويواصل سرده للحكاية، «لم أتمكن من المضي قدماً في تلقي وعود كاذبة، من رجل يرفض رعاية طفلته، بل ومنحها اسمه، فذهبت إلى أحد مراكز الشرطة في إمارة أخرى، بناء على نصيحة تلقتها زوجتي من إحدى فاعلات الخير، فقام الضابط آنذاك بالتحري عن «نسخة شهادة الميلاد» ووجدها صحيحة، وطالب الأب بالحضور الفوري، وتم استجوابه، حيث اعترف بأن الطفلة هي ابنته، لكنه يرفض الحضور مرة أخرى إلى مركز الشرطة، وعليهم وضعها في الملجأ، لأنه يعتبرها «النقطة السوداء الوحيدة في حياته» كما أنه «لن يضحي بأبنائه الخمسة مقابل هذه الطفلة».
يبتسم عطايا للمرة الأولى منذ سماعنا له وهو يسرد الحكاية، ويتابع: في عام 2012، وبعد أن ترددت على أكثر من مركز شرطة في الكثير من إمارات الدولة، قدّم لي أحد الضباط رقم هاتف مسؤول كبير، وأخبرني بضرورة أن تتواصل معه ابنتي وتسرد عليه القصة كاملة، لأنه الوحيد القادر على مساعدتها.

ويضيف: بالفعل، أرسلت «ف» رسالة نصية إلى هذا الرقم، ليعود للاتصال بها، فأخبرتهم بالحكاية، وأنها لا تمتلك ما يثبت انتماءها لدولة الإمارات سوى نسخة عن شهادة الميلاد، فطالبها بإرسال صورة شخصية لها، ووعدها خيراً.

بشرى

هنا، تعود «ف» لتتابع سرد التفاصيل، لكنها هذه المرة تكاد الفرحة تقفز من عينيها، فتقول: وردنا اتصال من «جهات عليا»، فكان بشرى خير علينا جميعاً، تطالبنا بمراجعتها في أبوظبي، وبالفعل، كانوا في انتظارنا، وبعد ترحيبهم الحار بنا، أخبرونا أنهم يبحثون عني منذ 4 سنوات، لكنهم لم يتوصلوا لمكان سكناي، ولا حتى لأي وسيلة تواصل مع العائلة التي ترعاني، وطلبوا من «والدي الحاضن» التقدم ب«طلب نسب» في محكمة الشارقة، حيث تواصلوا مع «الوالد البيولوجي» وسألوه عما إذا كنت ابنته بالفعل، وجاء رده بالإيجاب.

يتنهد عطايا، كأنه أخرج مع كل زفرة هواء ألم السنين من قلبه المثقل بالهموم، ويواصل حكايته، بالقول: في محكمة الشارقة وعلى مدى يومين متتاليين لم يحضر «ع.ب.م» إلى أي من الجلستين، وفي اليوم التالي، كرر اعترافه أمام القاضي بأنها ابنته، ويريد اصطحابها إلى منزله، حيث كانت تبلغ آنذاك 17 ربيعاً، ولأنني كنت على يقين برفضه لطلبي المتمثل في «لا مانع، لكنني بالمقابل أريد ما أنفقته عليها طوال هذه السنوات، وهو مبلغ يقارب 350 ألف درهم»، فصدر حُكم غيابي، لعدم حضوره الجلسة اللاحقة، وكان نص الحكم «إصدار جواز سفر وبطاقة هوية وخلاصة قيد»، بالإضافة إلى نفقة شهرياً، تبلغ 2500 درهم ل«ف».

ويضيف: مباشرة، توجهت إلى محكمة أبوظبي حاملاً الحكم الصادر، وتم تصديقه، وبمتابعة من «جهات عليا» تم التوجه إلى إدارة الجنسية وشؤون الأجانب بالشارقة، لتحصل ابنتي «ف» على اعتراف بوجودها بكامل الأوراق الثبوتية.

عائلتي من احتضنتني

بكلمات بريئة كما حياتها طوال 19 عاماً، تجيب «ف» عن سؤال كان لا بد لنا من طرحه: ماذا ستفعلين لاحقاً، وأي العائلتين ستختارين لمواصلة العيش معها؟ فقالت: أشعر بالانقسام، وأنا على يقين أن عائلتي الوحيدة التي سأبقى اعترف بها هي العائلة التي احتضنتني طوال عقدين من الزمن، ومنحتني الكثير من الحب والأمل، ولن أقبل بعائلة سواها، ولكنني في مرحلة مهمة من حياتي، ستعمل على تقرير مصيري، فأنا في الثانوية العامة «علمي» ومتفوقة، وأحلم بدراسة الطب في الجامعة، لكن ظروف عائلتي المادية قد لا تساعدني على تحقيق ذلك، إلا أنني على يقين أن أهل الخير في «عيال زايد» كانوا ولم يزالوا.

وتضيف: لم أرَ والدي البيولوجي منذ 3 سنوات، حينما التقيته في جلسة محكمة الشارقة، وكيف سيكون والدي وهو لم يتواصل معي في أي مناسبة، سواء كانت شهر رمضان أو حتى الأعياد؟
هنا، تشير إلى وليد عطايا، وتقول: هذا أبي، الذي منحني دلالاً فاق أبناءه الحقيقيين، ولو تم وضعي في المستقبل أمام خيار يتمثل في مغادرته للعيش في «فيلا» «ع.ب.م»، لكان ردي قاطعاً بالرفض، حيث ان أبي ليس الرجل الذي أحمل اسمه «بقرار قضائي»، بل صاحب القلب الطيب الذي منحني رعايته كاملة.

عروس جميلة

«أحلم أن أراها عروساً جميلة في المستقبل، أزفها إلى رجل يستحقها»، بهذه الكلمات، أنهى عطايا سرد الحكاية، موضحا أنه والد «ف»، وبقرار من المحكمة، يستطيع تزويجها من دون الرجوع إلى والدها البيولوجي، فهي ابنته، مع أنها ليست من صلبه، لكنها قطعة من قلبه.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"