عادي
علمياً تبدأ بأفكار متوترة وأسبابها عدة

انتكاسة المدمن المتعافي مسؤولية الأهل والمجتمع

04:14 صباحا
قراءة 7 دقائق
تحقيق:رند حوشان

تعتبر العوامل الاجتماعية من أهم التحديات التي قد تؤدي لتعرض المتعافي من المخدرات للانتكاسة بعد أن يتعافى، سواء طالت المدة أو قصرت، ومن شأنها زعزعة ثقة المتعافي بنفسه، وما وصل إليه من تعاف، وعدم تقبل المجتمع له لما يحمله من تاريخ، و«وصمة» متعاط.
وقد تأتي الانتكاسة بلا مقدمات، ولكن علمياً تبدأ بأفكار متوترة تتولد لدى المتعافي، باعتبار أنه فرد في المجتمع ذو مسؤوليات تجاه أسرته، وبسبب عدم قدرته على تلبية احتياجاتها لفقده وظيفته قد تتسرب إليه فكر اليأس، والإحساس بالعجز، فيكون التعاطي هو المنفذ للتخلص من هذه الأفكار، والواقع الذي يمر به، الأمر الذي يتطلب من المجتمع ككل التعاون في مساعدة المتعافين، واندماجهم الإيجابي في المجتمع.

الدكتور حمد الغافري مدير عام المركز الوطني للتأهيل يقول: من الأسباب التي تؤدي إلى الانتكاسة في حالات الإدمان، الأسباب البيولوجية، وهي تتعلق بأثر المخدرات في الجهاز العصبي، ومضاعفات ذلك عدم قدرة الشخص على مقاومة الرغبة في التعاطي، والتعرض للانتكاسة، والأسباب النفسية، والأسباب الاجتماعية، فالبعض من المتعافين لا يجد الفرصة المناسبة لإثبات ذاته ومواطنته الصالحة في المجتمع لكون المجتمع يطارده بلقب «مدمن»، فتصبح فرصته للحصول على وظيفة، أو بناء أسرته الصغيرة، أو حتى مشاركة الآخرين الحياة الاجتماعية بشكل عام، أمراً مشكوكاً فيه، وقابلاً للتأويل دائماً، إلى جانب العوامل المالية؛ فالمتعافي كفرد في المجتمع هو ابن، أو زوج، أو أب، ذو مسؤوليات تجاه أسرته وأفرادها، وبسبب عدم قدرته على سد هذه الاحتياجات لفقده وظيفته، أو بسبب قضايا سابقة، قد تتسرب إليه فكرة اليأس والإحساس بالعجز، فيكون التعاطي هو المنفذ للتخلص من هذه الأفكار، والواقع الذي يمر به.
ولفت إلى الشراكات العالمية للمركز التي يتم خلالها تدريب المختصين على برامج معترف بها عالمياً، مثل؛ جامعة لوس أنجلوس، ومعهد «ماتريكس»، وجامعة هارفرد، ومستشفى ماكلين، كما أنه يتبع خطط علاجية شاملة، يتم من خلالها متابعة جميع المرضى خلال مراحل العلاج المختلفة، وملاحظة التغيرات التي من شأنها التسبب بالانتكاسة ورصد الأفكار المتعلقة بالشوق، للمواد المخدرة والرغبة في العَودة، مشيراً إلى أنه في حال مشاركة المريض لمثل هذه الأفكار، فإنه يتم من خلال البرامج والجلسات مع أفراد الفريق الطبي المختص؛ كالطبيب، والاختصاصي النفسي، والاجتماعي مساعدة المريض على التعرف إلى هذه الأفكار، ومسبباتها، وكيفيه البعد عن المؤثرات التي من شأنها تحفيز هذه الأفكار، أما في حال الانتكاس الفعلي والعودة فيتم إدخال المريض في برنامج لإزالة السميّة من خلال القسم الداخلي أو البرامج العلاجية بالعيادة الخارجية لتخطي هذه المرحلة ومساعدته على الاستفادة من هذه التجربة بمعرفة مسبباتها وآثارها فيه وكيفيه تجنبها مستقبلاً.

دور العائلة

ويعطي المركز أهمية كبرى لدور العائلة في مساندة ودعم المتعافي خلال تعرضه للانتكاسة ومساعدته على تخطي هذه المرحلة، موضحين لها طبيعة المرض، والسلوك الإدماني، وحقيقة أن الانتكاسة واردة في مراحل التعافي المختلفة، كما يعمل على تقوية الوازع الديني من خلال محاضرات دينية متخصصة، وبرامج منوعة، وأنشطة ثقافية وعلمية.
ولفت إلى وجود صعوبات قد تواجه المدمن المتعافي؛ كأمراض مصاحبة للإدمان، مثل؛ الكبد الوبائي، وأضرار طبية أخرى نفسية، مثل؛ الاكتئاب، والقلق، والمضاعفات النفسية الأخرى، مثل؛ الذهان الناتج عن تعاطي مواد مخدرة، وصعوبات اجتماعية على مستوى الأسرة من تفكك، وطلاق، وإهمال الأبناء، وفقدان العمل، والديون، والتبعات القانونية، مثل؛ قضاء فترات في السجون، جميعها تعمق من مشكلة الانتكاسة، مؤكداً أن المركز يقوم بوضع آلية للتعامل مع المدمن المتعافي على مستويات عدة، هي؛ طبية «علاج طبي لأمراض نفسية، وجسدية قد تصاحب الإدمان»، ونفسية «بالعلاج النفسي سواء فردي أو جماعي»، واجتماعية «بتقييم أوضاعه الحياتية من قبل المختصين»، وتذليل الصعوبات، مثل؛ إيجاد فرص عمل، ومشكلات السكن أو الديون، والتأهيل لسوق العمل بالتدريب، وهناك مستوى آخر بالعلاج الأسري وتوعيه الأسرة والمجتمع بكيفية دعم المتعافي وتحفيزه.

تدريب المدمن

من جانبه، قال الدكتور علي المرزوقي مدير إدارة الصحة العامة والبحوث في المركز الوطني للتأهيل، إنه يتم تدريب المريض المتعافي على كيفية تلافي أو تفادي الانتكاسة من خلال البرامج المختصة، فالبعض يعتقد أن الانتكاسة تأتي بلا مقدمات، ولكن علمياً فهي تبدأ بأفكار متوترة تتولد لدى المتعافي، وما إن يبدأ المتعافي في التفكير في تلك النشوة، أو الأثر الذي يعتقد أنه يزيل همومه، أو يفصله عن واقعه، تتحرك لدية الرغبة في العودة للتعاطي، أو ما يسمى ب «الشوق»، وخلال هذه المرحلة يستطيع البعض، وبوجود البرامج العلاجية المستمرة، تخطي المرحلة، وكسر الرغبة وإحلالها بأفكار أكثر إيجابية، ولكن يبقى البعض الآخر فريسة لهذه الأفكار مع وجود العوامل الخارجية المؤثرة؛ رفقاء السوء، أو الحالة النفسية الراهنة للمتعافي.
وأوضح أنه إذا كان التعاطي لمرة واحدة فقط، وتم تداركها بسرعة فتندرج تحت مسمى ال«الهفوة» وتكون مرحلة لحظية، أما في حال الاستمرار في التعاطي فهو ما يطلق عليه «انتكاسة»، حيث يفقد المتعافي السيطرة على سلوكاته الإدمانية، وقد ينقطع عن البرامج العلاجية في حال انضمامه لها، ويبدأ بفقد التواصل مع مجتمعه، وأسرته أو الانخراط في سلوكاته من شأنها إيقاعه في مشكلات صحية، واجتماعية أو قانونية مختلفة.

وأشار إلى بعض السلوكات التي يمكن أن يقوم بها المتعافي لتجنب الانتكاسة، وهي أن يضع جميع ما تعلمه خلال فترات العلاج المختلفة قيد التطبيق، فالثقة الزائدة بقدراته بعد التعافي، أو التقليل من شأنها هي أولى لبنات الانتكاسة في أغلب الحالات، أما المتابعة المستمرة ومشاركة الفريق العلاجي بالمستجدات، والإفصاح عن تلك الأفكار، أو الانتكاسة الفعلية؛ ستساعد على تقليل فرص الانتكاسة في المستقبل، والمداومة على حضور البرامج العلاجية التي تقوي الجانب النفسي والاجتماعي لدى المتعافي، ومساعدته على تخطي الأزمات والعقبات التي يمر بها خلال مرحلة التعافي، والتعرف إلى تجارب الآخرين وكيفيه تخطيهم لحالات مشابهة، إلى جانب إشراك العائلة، وجميع مَن مِن شأنهم دعم ومساندة المتعافي في تخطي تلك العقبات، وعدم التكتم على المواقف والأزمات التي قد يمر بها ظناً منه بأنه يستطيع تخطيها بشكل فردي.

تحصين النفس

وقال الدكتور طلعت مطر استشاري ورئيس قسم الطب النفسى في مستشفى إبراهيم بن حمد عبد الله، وأستاذ الطب النفسى في كلية الطب جامعة رأس الخيمة، إن علاج الإدمان يعتبر من أصعب المهمات العلاجية في الطب النفسي، وأن نسبة الانتكاسة عالية جداً ليس، في دولة الإمارات فقط، وإنما في العالم ككل؛ وذلك لأن العوامل التي أدت إلى الإدمان معقدة ومتشابكة، حيث إن هناك أسباباً نفسية، واجتماعية، وبيولوجية، فتتعلق الأسباب النفسية بتركيبة الشخص النفسية التي تكونت على مدار السنين ابتداءً من سن الطفولة المبكرة وعلاقة الطفل بأمه، أو الأم البديلة، وجرعة الأمان التي نالها الطفل، ويتعلق الجانب الاجتماعي بالتركيبة الأسرية والعلاقة بين الوالدين والتماسك الأسرى ومقدار الرعاية التي تتراوح بين التدليل الزائد، أو القهر، أو حتى العنف الأسري.
وأضاف أنه ومن خلال الجانب البيولوجي فقد أثبت العلم أن هناك أسباباً وراثية، أو جينية تجعل من بعض الأشخاص عرضة للإدمان أكثر من غيرهم، وبعد أن يحدث الإدمان تتغير الخريطة البيولوجية للمخ الذي أصبح الآن يعمل تحت تأثير مواد كيميائية معينة، وحين تسحب منه هذه المواد فإن المخ يحتاج لفترة زمنية لإعادة توازنه، فهو غير قادر على تعديل نفسه، أو إعادة بناء نفسه، وهذا يتطلب وقتاً، مشيراً إلى أن علاج الإدمان يمر بعدة مراحل زمنية؛ المرحلة الأولى هي معالجة الأعراض الانسحابية الناتجة عن التوقف، وبعد ذلك تبدأ مرحلة إعادة التأهيل المرحلة التي تتطلب تتضافر فيها جهات كثيرة في المجتمع، فهي مرحلة إعادة بناء الشخصية من جديد حتى لا تعود إلى سابق عهدها.
وأكد أن أهم أسباب الانتكاسة هي أن العوامل التي أدت إلى الإدمان لم تتغير؛ سواء الشخصية، أو الاجتماعية المحيطة، أو الأصدقاء، فحين يشعر الشخص بعدم قدرته على التكيف فإنه يلجأ مرة أخرى إلى التعاطي؛ كملاذ آمن وطريقة لتغييب الوعى، حتى يقل الألم الناتج عن عدم القدرة على التكيف مع المجتمع، إذ إن المدمن يبقى طوال عمره عرضة للانتكاسة وعليه فإنه يعتبر نفسه كذلك حتى ولو توقف عن التعاطي ويكون حذراً طول الوقت ليشعر بأنه أصبح في أمان، كما يجب عليه تحصين نفسه عن طريق تغيير موقفه من الحياة؛ كتقوية الوازع الديني، والعمل والانخراط في الأعمال الخيرية، فقد ثبت أن العمل في المجال الخيري والعلاقات الاجتماعية البناءة من أهم المحصنات ضد الانتكاسة.

وجود خلل في خطة علاج المريض

أوضحت الدكتورة نسرين السعدوني، أخصائية طب نفسي في هيئة الصحة في أبوظبي، أن انتكاسة المدمن المتعافي تنقسم إلى أسباب وعوامل عدة، ومنها العوامل المرتبطة بالجرعة، وتاريخ الإدمان السابق، فكلما كان للمدمن تاريخ أكثر عمقًا في تجربة إدمان المخدرات، وارتبط الأمر بشبكات أوسع من المعارف والأصدقاء والأنشطة، فهو علامة على زيادة احتمالات حدوث انتكاسة، والعوامل الاجتماعية؛ وكلما كانت حياته الاجتماعية أكثر تعقيداً، زادت احتمالية حدوث الانتكاسة، إلى جانب العلاقات الإنسانية، فإذا كانت علاقاته أعمق بأشخاص مدمنين تعرض لخطر حدوث انتكاسة بنسبة أكبر، وكلما كانت علاقاته أقوى بأشخاص داعمين لقراره بالعلاج من الإدمان، فهذا يساعد في حمايته من حدوث انتكاسات.
كما أن للضغوط النفسية الشديدة، سواء الناتجة عن الالتزامات المادية والحياتية المختلفة، أو الناتجة عن معاناة المريض، من مشكلات نفسية إضافية؛ كالاكتئاب، ووجود خلل في خطة علاج المريض، سواء من ناحية الجرعات الدوائية المناسبة، أو برنامج العلاج النفسي السلوكي، أو جدول زيارات المتابعة والدعم النفسي، جميع تلك العوامل تزيد من احتمالات حدوث انتكاسة للمدمن.
وأشارت إلى أن عملية التعافي تعتمد على المريض ذاته، حيث إن عليه القيام بجهد حقيقي لتقبل أن الانتكاسة ما هي إلا جزء من المرض، وأن يصفح عن نفسه؛ فالشعور بالذنب والخجل من الانتكاسة يقف عقبه في طريق التعافي، ويجب أن يكون صادقاً ومستعداً لقبول المسؤولية تجاه الانتكاسة، وأن يكون مستعداً للالتزام بعمل التغيرات اللازمة للوقاية منها مستقبلاً، إضافة إلى أنه يجب عليه مراجعة الظروف والأحداث المحيطة بالانتكاسة لتساعده على فهم أسباب العودة إلى التعاطي، فإن لكل انتكاسة تاريخاً خاصاً بها، كما يجب عليه الابتعاد عن المؤثرات السلبية، والمشاركة بفعالية في مجموعات الدعم الذاتي والعلاج الجماعي، أو العلاج الفردي، مثل؛ زيادة الدافعية والعلاج السلوكي المعرفي.
وأكدت أنه مع كل هذا التقدم الذي أحرز في تعليم الناس حول الكحول والعقاقير الأخرى، فإن معظمهم ما زالوا لا يدركون الطبيعة المزمنة لهذا المرض، ولوجود الوصمة السلبية حول التعاطي فإنهم عادة يلومون المدمن عندما ينتكس، وهذه لا تحدث مع المرضى الذين يعانون أمراضاً سلوكية أخرى، وتقع على عاتقنا مسؤولية كمجتمع بألا نكون متزمتين ومؤنبين لهؤلاء الأشخاص المنتكسين، ونحتاج لأن نكون أكثر تعاطفاً معهم.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"