عادي

ذات شاعرة

03:05 صباحا
قراءة دقيقتين
محمدو لحبيب

في المرويات المتداولة على نطاق واسع وبلغات وثقافات متعددة، ثمة أمور تبدو كما لو أنها مسلمات لا تتأثر بذلك التعدد والاختلاف، من قبيل أن الكتابة تتطلب القراءة المكثفة أولاً، ومن قبيل أنه كي تصبح شاعراً عليك أن تحفظ في ذاكرتك ألف بيت كما يقال في بعض «قواعدنا» الشعرية العربية العامة.
دعونا نفترض أن تلك القاعدة المتعلقة بالكتابة عموماً وبالشعر العربي خصوصاً هي قاعدة حقيقية، ولن نتساءل من أين أتت، وعلى أي أساس بنيت، هل بنيت على الملاحظة المباشرة، وتكرار حدوثها عند شعراء عرب عديدين، وعبر فترات مختلفة، أم أنها قاعدة بنيت على منطق أن الشعر المختزن في الذاكرة ينتج بالضرورة شعراً جديداً، على طريقة اغرس وستجني الثمار.
حسناً، إن السؤال البارز ما بعد التسليم جدلاً بصحة تلك القاعدة التي لا يعرف لها إثبات قطعي مفاهيمي، هو: هل يكون الشاعر ذاتي التجربة إذا ما كان شعره ناتجاً عن كل المحفوظات التي يحفظها، وهل يستطيع الشاعر الذي يمتلك ذلك المخزون من تجارب الآخرين في ذاكرته أن يبدع هو لذاته وبذاته بعيداً عن التأثر بما حفظه واختزنه؟.
يبدو أن السؤال يقود إلى الطريق المعروفة، والسؤال النمطي المتكرر منذ أن وجد الشعر على كوكبنا: ما الشعر؟، وكيف يمكن تصنيف أي شاعر بأنه شاعر فعلا؟.
لن نذهب في هذا الاتجاه، فهو شهد إجابات ونقاشات عديدة، قد لا تكون حسمت الجدل حول ماهية الشعر، ولا حددت صفات وضوابط ومميزات تُعرّف الشاعر بدقة، لكنها على الأقل أثبتت للجميع أن ثمة ما يُقال من طرف بعض الرجال والنساء منظوماً كان أم تفعلة أم نثراً شعرياً، ويلامس الذائقة البشرية، ويحرك الوجدان والعاطفة، ويجدد الخيال، ويحرره لينطلق في إثر صور جميلة ربما لم ولن توجد على أرض الواقع.
لنسلم جدلاً مرة أخرى بأن الشعر هو ذلك الخيال الإبداعي الذي ينقلنا إلى عالم فسيح رحب سعيد، ويوفر لنا نشوة ولو للحظات، يمكننا الآن أن نعود مرة أخرى إلى السؤال الأول الذي طرحناه: هل يمكن للشاعر الذي يحفظ المتون من أشعار غيره أن يتميز ذاتيا؟.
نحن حتى اللحظة محكومون بمعرفة تفيد بأنه من الصعب أن يتخلص الإنسان من ذاكرته السمعية أو البصرية أو المكتوبة، ومن الصعب ألا ينهض ذلك التراكم المعرفي والثقافي بشكل عام، أثناء محاولة خلق تجربة ذاتية، وعلى ذلك لا يمكن الجزم البتة بأن الشاعر الذي يحفظ ألف بيت أو مليار بيت، سيكون بالضرورة شاعراً قادراً على أن يعبر عن ذاته.
أحسب أننا بحاجة إلى التساؤل عن جدوى تكرار مثل تلك المقولات النمطية التي تتردد دائما، وأحسب أننا وهذا هو الأهم بحاجة إلى إعادة التساؤل حول الشاعر وحول الذات الشاعرة.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"