عادي
كتب أغلب السيناريوهات وشاهد أفلامه داخل السجن

المخرج يلماز جونيه.. شوكة حرية ضد السلطات التركية

03:50 صباحا
قراءة 6 دقائق
محمد رُضا

في سبتمبر/أيلول1981 أعطت سلطات سجن أيمرالي التركية المخرج السجين يلماز جونيه إذناً خاصاً؛ لزيارة عائلته وقضاء يومين طليقين من قبل أن يعود إلى سجنه، القائم فوق جزيرة تحمل نفس الاسم؛ لكن يلماز، وحسب خطة موضوعة، فر من البلاد عن طريق مركب إلى إحدى الجزر اليونانية، ومنها إلى إيطاليا ثم سويسرا؛ حيث مات هناك سنة 1984. الصحف التركية لم تحط كثيراً بتفاصيل هروبه، وتنوعت تعليقاتها حسبما هو متاح من حرية تعبير؛ لكن الجمهور التركي الذي أحب جونيه وتجاوب مع أفلامه، فرح لفراره واعتبره حياة جديدة كتبت له. وكان أكراد تركيا أكثر فرحاً بفرار جونيه من معتقله على أساس أنه لطالما عكس في أفلامه قضاياها الاجتماعية والسياسية.

دخل جونيه السجن في عام 1974 ليقضي عقوبة مدتها 18 سنة، بعدما اتهم باشتراكه بقتل قاض يميني في مدينة أدانا في العام ذاته. ومفاد ما حدث أن «الممثل والمخرج» جونيه وفريقه السينمائي كانوا يأكلون في أحد مطاعم المدينة عندما تعرف إليه القاضي القتيل فتبادل وإياه المناقشات السياسية الساخنة، ثم العراك الذي تطور إلى استخدام المسدسات وقع بنتيجتها القاضي قتيلاً.

في الحال ألقي القبض على جونيه؛ بتهمة القتل على الرغم من أن أحد أقاربه «ابن خاله» أعلن أنه هو الذي أطلق النار؛ لكن السلطات كانت تريد النيل من جونيه؛ لأفكاره السياسية التي مارسها شعراً وكتابة وأفلاماً. وهي أفكار تتعرض إلى الحياة السياسية والاجتماعية في البلاد فتكشف تخلفها وتنتقد واقعها المرير، والتي فوق ذلك تدين الإقطاع، وتوحي بالتعاون القائم بينه وبين السلطات والحكم الأقرب إلى الديكتاتورية آنذاك.

في سجنه، تمتع جونيه بمقدار معين من الحرية؛ اعترافاً بمكانته وصيته. كان يستطيع كتابة السيناريوهات، ومشاهدة الأفلام التي تصور من سيناريوهاته، وكان يستطيع التجول في أنحاء الجزيرة - السجن في أوقات معينة، ومقابلة الزوار مرة في الشهر؛ بل إن صحفيين تلفزيونيين (هانز ستامبل ومارتن ربكنز) صورا عنه فيلماً وثائقياً بعنوان «زيارة إلى أيمرالي لقاء مع يلماز جونيه». مع ذلك كان هناك دائماً ذلك القلق من أن تؤدي ممارسات جونيه وأفكاره إلى خطر يهدد حياته، وكان هناك الإدراك بأن السنوات الطويلة من الحبس قد لا تنتهي إلا لتبدأ من جديد «كانت هذه هي المرة الثالثة التي يسجن فيها جونيه» وربما شعر جونيه «وهو الذي أخرج فيلمين يدوران حول الحياة في السجون» بالتوق إلى الحرية وبالشوق للوقوف وراء الكاميرا من جديد، فأوعز وخطط وهرب.

ولد يلماز جونيه عام 1937 من أبويين كرديين يعملان في الفلاحة في مدينة آدانا الواقعة في جنوبي الأناضول «وسط جنوب شرق تركيا». في الثلاثينات والأربعينات كانت المنطقة لا تزال تعد مرتعاً للعصابات وللعادات القبلية، وجرائم الاغتيال والأخذ بالثأر، وكان يسودها أيضاً مقدار كبير من الفقر والتخلف، على الرغم من أن الأراضي ذاتها خصبة ووفيرة الغل. واشتهرت بزراعة القطن أساساً، وكان محصوله يؤمن ثراءً واسعاً لأصحاب الأراضي الكبيرة وعملاً مستمراً للفلاحين والأيدي الأجيرة. كل هذه المظاهر الحياتية وردت لاحقاً في كتابات جونيه كما في أفلامه التي نقلت صوراً واقعية وصادقة عن تلك الفترة، أو مستمدة منها ومرتبطة بالسنوات القريبة التي كان جونيه فيها يحقق أفلامه.

في صباه عمل حمالاً للمياه. وأجيراً في الأرض وقطف المحاصيل، وعاملاً في محل جزارة، وبهذه الأعمال وبسواها، أكمل جونيه دراسته الجامعية فدرس الحقوق في أنقرة والاقتصاد في إسطنبول. في 1959 تعرف إلى المخرج التركي عاطف يلماز وأخذ يكتب له القصص ويظهر في بعض أفلامه. وفي 1961 نشر رواية كتبها تحت عنوان «الفروسية مع ثلاثة غرباء» ( واحدة من روايات أربعة منشورة له) فقبض عليه بتهمة التحريض، وأودع السجن لسنتين.

حين تم إطلاقه في 1963 عاد جونيه إلى السينما ممثلاً وكاتباً لسيناريوهات بعض أفلامه. ومن 1963 إلى 1968 قام ببطولة ما يربو على 80 فيلماً؛ حيث كتب قصص 21 منها. هذه الفترة ذاتها كانت غنية جداً بالنسبة للسينما التركية التي كانت قادرة على إنتاج 300 فيلم في السنة أو أكثر أحياناً. وأفلام جونيه آنذاك لم تختلف عن المعظم الكاسح من الأفلام السائدة: أفلام مغامرات ومطاردات وعصابات، وخطف وقتل. أفلام ترفيهية مجانية معمولة على طريقة السينما المصرية، اليونانية، الهندية، والإيطالية مجتمعة أو متفرقة. وكانت فقيرة الإنتاج، ضئيلة الأحجام، ميلودرامية النوع ومحدودة الاهتمامات؛ لكن جونيه علا فيها وصار نجماً أولاً للسينما التركية وسطع نجمه على واجهة عريضة من الشهرة تضعه في مرتبة جوليانو جيما أو جان ماريا فولونتي في سينما رعاة البقر الإيطالية التي كانت منتشرة آنذاك.

في 1966 قرر جونيه إضافة الإخراج إلى التمثيل وإلى الشعبية الكبيرة التي حققها لنفسه سريعاً. وبهذا القرار انتقل إلى مرحلة جديدة تطلبت منه التعامل مع الشخصية التي قدمها على الشاشة مراراً بأبعاد جديدة. هنا حقق جونيه معادلة قد تبدو، للبعض، مدروسة لكن لا شيء يؤكد هذا على الإطلاق. أفلام جونيه الأولى تمّت في إطار شعبي ترفيهي لا يختلف كثيراً عن الإنتاجات السابقة التي مثلها. هذا الإطار عانى أخطاء البداية الأولى فخرجت أفلامه، فنياً، بدائية التركيب والإخراج.

‫سينما اجتماعية

لاحقاً، تبلورت أفلام جونيه إلى سينما اجتماعية وسياسية لا يمكن تجاوزها. سينما روائية واقعية تستند إلى نفس التركيبة السردية البسيطة؛ لتقديم مشاهد ذات دلالات أعمق. أو لتقديم حبكات قصصية فيها نوع من الاستحداث. سينما غير متأثرة باتجاهات فنية أو متوهمة تحت تأثير الرغبة في الوصول إلى نخبة المثقفين محلياً أو عالمياً. وقد حقق جونيه هذه النقلة النوعية بين أفلامه الأولى ذات المضامين الاجتماعية المحدودة وأفلامه اللاحقة ذات المضامين الاجتماعية المباشرة والعميقة من دون أن يتخلى عن شكلها الشعبي الذي جذب الناس إلى أفلامه، ومن دون أن يخون تلك القاعدة العريضة من الجمهور الذي بات مع تكرار صورته العنيفة والانتقادية على الشاشة يعده بطلاً قومياً يتأثرون بمشاكله، يتفاعلون معها، يتفهمون شخصيته وينتصرون لها.

كانت هذه الشخصية، في معظم أفلامه، واحدة من شخصيتين: الأولى شخصية الرجل الفقير المعدم وميزته أنه ضحية اجتماعية مباشرة لا تستطيع أن تحارب لجهلها ودواعي فقرها، كما في «أمل» و«المساكين»، والثانية شخصية الرجل الذي قد يكون ضحية ما. والفيلم الوحيد الذي تخلى فيه جونيه عن هاتين الشخصيتين فكان «الصديق» الذي لعب فيه دور زائر غامض اقتصر الشرح فيه على الحدث الذي دار في أوساط طبقية عالية على عكس باقي أفلام جونيه كما سنرى.

أحد أفلام جونيه الأولى كان «سيد هان» (1968). قصة رجل عاد إلى قريته الأناضولية بعد طول غياب قضاه مهاجراً يبحث عن الثروة للزواج من المرأة التي أحب، وعاد دون أيما نجاح، ليجد أن امرأته تزف في اليوم نفسه إلى ثري بعدما قام أخوها بتزوير شهادة وفاة تدعي أن سيد قد لاقى حتفه؛ وذلك لإقناع شقيقته بالعدول عن انتظارها الطويل وعن أملها في أن يعود حبيبها إليها. عودة سيّد كان مفاجأة دفعت بالعريس الثري المملوء حقداً إلى دفن عروسه في التراب، حتى ذقنها، وتغطية رأسها بقبعة قش كبيرة بحيث يختفي الرأس تحتها تماماً، ثم وضع وردة صفراء على القبعة والطلب من سيد، الذي لا يعرف أن هناك رأساً ما تحت تلك القبعة، أن يصيب الوردة مدركاً أن غريمه يعد رامياً ممتازاً. يقبل سيد التحدي ويصيب الوردة ورأس حبيبته تحتها، ويلي ذلك انتقام طويل يثأر فيه سيد من الرجل ولعوانه.

من هذا الفيلم تبدو معالم سينما جونيه اللاحقة. إنه الرجل غير المنتمي، المرفوض، والذي قست عليه الحياة فتلون بهذه القسوة. الوحيد، الذي لا يصادقه أحد، والمتمرد على كل القوانين في غضب دائم. الساموراي في الأفلام اليابانية إذا أردت، أو لي فإن كليف أو كلينت أيستوود في رعاة البقر الإيطالية التي أوحت لجونيه شخصيات ونمط أحداث في عدد من أفلامه الأولى؛ لكن ما يميز شخصية جونيه عن شخصيات رعاة البقر الإيطالية، كونها وردت من التربة الفقيرة ذاتها التي أنتجت آلام المتعاطفين معه وعبّرت عن نفس الهموم وحملت نفس المرارة، وكونها لا تحارب في سبيل حفنة من الدولارات؛ بل لمبادئ راسخة تتعلق بالكرامة الذاتية أساساً وتنتهج طريقاً صعباً تقفل فيه فرص العودة أو التساهل مع النفس.

سارت أفلام جونيه اللاحقة على هذا الدرب لاعباً فيها دور العاصي والمتمرد ومحافظاً على لغة سينمائية بسيطة ومتقشفة؛ لكن النقلة الأساسية وردت لاحقاً في «أمل» في عام 1970؛ حيث تبدأ المعالم الحقيقية للسينما التي اعتنق جونيه مفهومها والبلورة الأكثر وضوحاً للمضامين والمفاهيم التي يكنها في ذاته حول مجتمعه وبيئته، وينقلها في تعبير حاد في صدقه.

بطل الفيلم حمال بعربة يجرها حصان في محطة القطار مثقل بالفقر. عليه إطعام عائلة وحياته صعبة ومضنية. في أحد الأيام تجنح سيارة مسرعة فتقتل له حصانه، ويقاد إلى مركز الشرطة؛ حيث تنقلب الدعوة ضده ويمتنع السائق عن التعويض؛ لكنه يتدخل لدى الضابط المحقق، لإخلاء سبيل العربجي المسكين. يدور العربجي على عدد من الممولين القادرين على إنقاذه من ورطته لاستدانة ثمن حصان آخر؛ لكن لم ينقذه أحد، وهو يرفض الاستجابة لنداء زوجته ببيع «الحنطور» وترك هذه المهنة المنقرضة؛ لاعتقاده أنه لا يستطيع العمل إلا فيها، وتنتهي أيام «الحنطور»؛ عندما يضع أحد الدائنين يده عليه حتى يسدد العربجي دينه.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"