عادي
موسوعة الفلك والجيولوجيا

القزويني .. أديب العلماء

01:43 صباحا
قراءة 6 دقائق

إعداد: محمد إسماعيل زاهر
من الكتب التي أثرت بشدة في المخيال الأدبي الغربي على مدار عدة قرون يأتي كتاب أبي عبدالله بن زكريا بن محمود القزويني "عجائب المخلوقات والحيوانات وغرائب الموجودات" في مقدمتها، طبع الكتاب مئات المرات وفي معظم لغات العالم، وهناك مخطوطات منه مزودة بالمنمنات والصور التي بلغت قمة الجودة والإتقان، وتوجد نسخ كاملة من الكتاب بالفارسية والتركية محفوظة في مكتبات العالم المختلفة، ومن يتصفح الكتاب الضخم يتضح له حلم صاحبه في الرغبة في الإحاطة ليس بمعارف عصره وحسب ولكن بعلوم المستقبل أيضاً، يتناول القزويني في عجائبه، الكواكب والظواهر الكونية "علم الفلك" وتكوين الأرض والجبال والأنهار والبحار وأنواع الأحجار "الجيولوجيا"، والمعادن "الكيمياء"، وأعضاء جسم الإنسان والأمراض "الطب" والحيوانات، إضافة إلى الكائنات الغريبة التي يتحدث عنها بأسلوب حكائي استفاد منه العلماء والأدباء اللاحقون له .
إن هم معرفة كل شيء يحيط بمؤلف الكتاب الذي يصعب تصنيفه، فهو ينتمي إلى الفلك بقدر تضمنه معلومات عن الإنسان والطبيعة والحيوانات، ويحتوي على الكثير من المعلومات العلمية الممزوجة بالمعارف الشعبية، ويمتاز بسرد أدبي ممتع أسهم في ترويج الكتاب في آداب العالم، وتختزن مراحل كتابته حكايات ودلالات مهمة، فنحن أمام كاتب موسوعي مولع بالعلوم كافة، وأمام رحالة يقص مشاهداته، وأمام عالم حين يتحدث فيما يتعلق بالملاحظة والتجربة، وأمام أديب لا نشعر في مفرداته بأي صعوبة أو تعقيد .

سحر الرحلة

ولد القزويني في عام 605 هجرية، ويعود بنسبه إلى الصحابي الجليل أنس بن مالك رضي الله عنه، وتوفي في عام 682 هجرية، 1208-1283 م، عاصر في حياته أهم الأحداث الذي مرت في التاريخ الإسلامي مثل: صعود المغول، تدمير بغداد، معركة عين جالوت، سقوط أشبيلية، وحيث لم يبق في يد العرب في الأندلس سوى مدينة غرناطة . . . الخ .
نشأ عالمنا وأديبنا في مدينة قزوين، ويحكى أن والده صحبه في رحلة طويلة لزيارة الموانىء المطلة على بحر الخرز في أواسط آسيا، وفيها فتن الطفل بكل ذلك التنوع الثقافي وما يتضمنه من غموض وسحر وخلبت لبه حكايات البحر، ومع اقتراب المغول تهاجر الأسرة إلى بغداد ويعده والده لدراسة الفقه، ولكنه وبعد تحصيل المعارف التي تؤهله للعمل في القضاء لا يشعر القزويني الشاب بميل إلا إلى كتابة مؤلف يغاير المطروح في زمنه، ويستأذن والده في رحلة تستغرق عشر سنوات يسافر فيها من بغداد إلى تخوم الصين، ويزور الجزيرة العربية وبلاد الشام ومصر، رحلة تمتزج فيها روح ابن بطوطة مع غرائب أحمد بن فضلان، وتختتم بحس العالم، فبعد عودته إلى بغداد يعمل في القضاء ويتزوج ويظل خمسة عشر عاماً يقرأ المزيد والمزيد في شتى صنوف المعرفة ليصدر كتابه المتفرد .
في سيرة القزويني العلمية، حيث المعلومات شحيحة عن حياته الشخصية، الكثير من الدروس، هناك هذا الطفل المفتون بالجغرافيا بتنوعها وإحداثياتها حيث نشأ، وذلك الشاب الذي عاش في بغداد في القرن السابع الهجري بتعدد مكتباتها: أسواق الوراقين وبيت الحكمة، وأعراقها: عرب وترك وفرس وهنود وأرمن وشركس . . .الخ، وعلومها: الفلك والطب والجغرافيا والتاريخ وأيضا الحكايات، كانت الحضارة العربية الإسلامية قد وصلت آنذاك إلى الذروة في التأليف والإضافة إلى علوم الآخرين، وكان القزويني قد قرأ لأرسطو وبطليموس والبيروني وابن سينا والفارابي، ثم اتخذ قراره ليجوب الآفاق ويتعرف إلى أرجاء خراسان وأفغانستان وديار الترك وخوارزم وأرمينيا وأذربيجان، وفي رحلته رأى الكثير من أعاجيب الأرض، في البر والبحر والجبال والسهول والأنهار وألواناً من المعادن وأجناساً من البشر مختلفي الملامح والوجوه والقامات والعيون والانوف وأنواعا لا تحصى من النباتات والحيوانات والطيور .

بساطة العالم

الملاحظ أيضا في سيرة القزويني أنه بعد عودته إلى بغداد وجد أن أباه قد فارق الحياة تاركاً له رسالة يقول فيها: "اسع إلى القضاء فأنت أهل له، واكتب يوماً ما عرفته لكل الناس، لا للصفوة وحدهم، واجمع فيما تكتبه بين ما عرفته وعقائد دينك، في الحياة وفي الكون، وأرع الله والحق في كل ما تكتبه يا بني، فالكلمة تبقى من بعدك بخيرها وشرها، أو فالزم الصمت" .
ينقسم كتاب "عجائب المخلوقات والحيوانات وغرائب الموجودات" إلى مقدمة تحوي تصنيفاً عاماً لجميع الموجودات وفق النمط اليوناني، وعلى الأخص أرسطو، ثم قسمين يعالجان الكلام عن العالمين العلوي والسفلي كل على حدة، ويتناول القسم الأول الذي يبحث في العالم العلوي الكلام عن الأجرام السماوية: الشمس والقمر والنجوم، وسكان هذا العالم أي الملائكة، وكذلك التوقيتات والتقاويم العربية والسريانية وما يرتبط بها من أعياد ومناسبات . أما القسم الثاني فخصصه لذكر الأرض وظواهرها، حيث يرد فيه الكلام عن العناصر الأربعة: النار والهواء والماء والتراب، ويصف فيه تقسيم الأرض إلى سبعة أقاليم، مع بيان أسباب الزلازل وتكوين الجبال ونشأة الانهار والمنابع والعيون، ويلي ذلك عرض لممالك الطبيعة الثلاث: المعدنية والنباتية والحيوانية، وتبدأ المملكة الأخيرة بالحديث عن الإنسان وخصائصه الأخلاقية وتشريحه وتركيبه العضوي ومميزات الشعوب المختلفة وحديث عن المخلوقات الأخرى من الجن والغيلان والعنقاء . . الخ .
وفي الكتاب حس العالم المتطلع إلى المستقبل، فالأرض كروية وليست شكلاً مربعاً أو اسطوانياً أو مسطحاً كما كان سائداً في عصره، تدور حول محورها من الغرب إلى الشرق، والمخلوقات عليها منجذبون إليها بقوة الجذب، وقوة الدوران معاً، وليست ثابتة في مركز الكون كما قال بطليموس، ومعظم اليابس في الأرض يقع في نصفها الشمالي، وأن صورة السماء بنجومها وكواكبها تختلف في النصف الشمالي عن الجنوبي، وأن القمر يدور حول الأرض، وأن هذه الأخيرة مع عدة كواكب أخرى تدور حول الشمس، فتنشأ نتيجة لذلك الفصول الأربعة، وأن الشمس تدور حول نفسها وحول مركز المجرة .
وفي الكتاب كذلك حديث عن ما في اعماق الأرض من طبقات وأبخرة وغازات ومعادن وفلزات . . . ولماذا تتغير طبيعة الأرض كل عدة آلاف من السنوات، هو حديث الجيولوجي، ويحيط بكل ذلك الحكايات الشعبية مع حس ديني قوي يعتمد على محاولة الاجتهاد مع الآيات القرانية الكريمة وأسلوب مترع بالصور والأخيلة الأدبية، وفي الكتاب كذلك روح المؤرخ المهموم الذي يريد تلخيص معارف عصره لحفظها في زمن اتسم باللحظات التاريخية المريرة والتقلبات التي ربما بدت لها مهددة للحضارة العربية الإسلامية نفسها .

لا نهائية التأثير

انتشر الكتاب بسرعة صاروخية في أرجاء العالم الإسلامي، وذلك قبل سنوات قليلة من دخول المغول البربري إلى بغداد وهجرة القزويني إلى الشام ثم مصر، واستقبله علماء عصره بالقبول وعقدت حلقات قراءة جماعية له، وكان من أوائل الكتب التي طبعت في الغرب في ألمانيا، وطبع في مصر في القرن التاسع عشر على هامش كتاب "حياة الحيوان الكبرى للدميري"، وهناك مخطوطات منه في ميونيخ وواشنطن ودار الكتب الأهلية في باريس، وكتب عنه مؤرخ العلم الشهير جورج سارتون في كتابه "المدخل إلى تاريخ العلوم عند العرب"، وكراتشكوفسكي في "تاريخ الأدب الجغرافي العربي"، وتشارلس لابل في "مبادىء علم الجغرافيا"، وشاخت في "تراث الإسلام"، وايتنهاوزن في "التصوير العربي"، وتناول الكتاب من الباحثين العرب كل من: أحمد عيسى وعبد الحليم منتصر، وتوفيق الطويل ومقبول أحمد . .الخ .
التأثير الأكبر للكتاب نجده لدى القاص والروائي الأرجنتيني خورخي لويس بورخيس الذي ألف كتابه "المخلوقات الوهمية" ليتناص فيه مع كتاب القزويني . يمتلىء عمل بورخيس باقتباسات من القزويني يضعها بين مزدوجين، كما أن مقدمة بورخيس تبدأ بفقرة مطولة من القزويني، ويبدو بورخيس مفتونا بالقزويني سائرا على دربه، ففي مقدمته الخاصة وبعد أن يحكي عن تأثير حديقة الحيوان في نفس الطفل، ينتقل إلى حديقة حيوان الأساطير تلك التي صاغها وأبدع فيها الكثيرون وفي مقدمتهم القزويني .
إن ولع بورخيس بالذات بالقزويني لا يحسب لتأثير هذا الأخير الممتد إلى القرن العشرين وإلى الأدب اللاتيني بقدر ما يؤشر إلى لقاء كاتبين حلما بمؤلف يضم معارف العالم بأسرها، فصل بينهما ما يقرب من سبعة قرون ووحدتهما الرغبة في لانهائية المعرفة .
كتب القزويني أيضاً عدة مؤلفات أخرى، مثل: "صورة الأرض"، و"عجائب البلدان"، و"خطط مصر" و"آثار البلاد وأخبار العباد"، والكتاب الأخير يعد الأشهر بعد "عجائب المخلوقات"، ويقال إنه اكتمل في السنة الأخيرة من حياة القزويني والتي امتدت لما يزيد على سبعة عقود، ويتكون "آثار البلاد" من ثلاث مقدمات، الأولى في الحاجة الماسة إلى إحداث المدن والقرى، والثانية في خواص البلاد وقسمها إلى فصلين: الأول في تأثير البلاد في السكان، والثاني في تأثير البلاد في النبات والحيوان، اما المقدمة الثالثة فهي عن أقاليم الأرض، ثم أفاض في أخبار الأمم السابقة وذكر تراجم الكثير من السلاطين والعلماء والشعراء والوزراء وغيرهم، متقاطعا بذلك مع كبار المؤرخين، وربما مع أشهر علماء الاجتماع من سيولد بعد وفاة القزويني بما يقرب من نصف قرن في غرب العالم الإسلامي ونعني به ابن خلدون .

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"