عادي
وقف على خشبة المسرح في عمر العاشرة

روبرت دي نيرو.. يعود إلى شعبيته بـ «الإيرلندي»

03:19 صباحا
قراءة 6 دقائق
محمد رُضا

لماذا يرضى ممثل من نوعه الفريد القيام بمثل هذه الأدوار الضعيفة في أفلام غير جيدة؟
هذا السؤال طرح سابقاً ويطرح الآن وغالباً ما سيطرح في المستقبل كلما وجد نقاد السينما، في الولايات المتحدة وخارجها، أن أحد أيقونات التمثيل في تاريخ السينما الأمريكية ينبري ليمثل فيلماً رديئاً أو لا مستقبل له.
آخر هذه الأفلام The Comedian («الكوميدي») الذي قام ببطولته وتم عرضه (وسحبه من العرض) في غضون الشهر الماضي. فيه عرف الممثل من تلك الأفلام التي مثلها في السنوات العشرين الأخيرة على الأقل والتي لم تتقدّم بمهنته بل خرقتها بثقوب كبيرة. أفلام مثل «قابل آل فوكرز» و«قتل صائب» و«ماشيت» من بين أخرى.
في «الكوميدي» هناك حكاية تتمحور حول ذلك الكوميدي الذي كانت له شعبيته الواسعة والآن بالكاد يشاهده أحد. يتشاجر ذات مرة ويدخل السجن لبعض الوقت وحين يخرج يجد الأضواء مسلطة عليه مجدداً. يحاول الاستفادة مع هذا الوضع لكن ما انحسر من حضوره مضى ولم يعد الجمهور، كما يرى الفيلم، تغير بدوره. جاكي بورك (دي نيرو) بات «موضة» قديمة. لكن أين الحكاية؟ الأرجح أنها في حبكة لم يستطع المخرج تايلور هاكفورد وكتابه تحريكها من جمودها.
على الرغم من ذلك، فإن دي نيرو ما زال يستند إلى صيته في الأفلام الجيدة العديدة التي قام بتمثيلها. ربما لم تعد بالكم نفسه الذي كانت عليه قبل ثلاثين سنة أو أكثر لكنها ما زالت حاضرة بسبب حضور مخرجيها أو قوّتها المشهودة.
في الواقع أحد هذه الأعمال الجيدة هو جديد دي نيرو المقبل الذي باشر بتصويره منذ فترة قصيرة تحت عنوان «الأيرلندي» بمشاركة الممثل الآخر الذي برز في فترة السبعينات ذاتها وتألق كتألق دي نيرو حتى بدا منافساً لدوداً له على الأدوار المهمة في تلك السنين وهو آل باتشينو. أما الإخراج السينمائي الذي تعاون مع دي نيرو مراراً وتكراراً ومثل له بعض أفضل أدواره إلى اليوم فهو مارتن سكورسيزي.
سيحمل هذا اللقاء الجديد بين دي نيرو وسكورسيزي الرقم 9 في سلسلة أعمالهما المشتركة، الأول ورد سنة 1973 عندما كان كل منهما ما زال مبتدئاً في مهنته، الفيلم كان من أفلام العصابات المافياوية النيويوركية وعنوانه «شوارع منحطة»، بعده وضع سكورسيزي دي نيرو في بطولة فيلمه الأهم حتى ذلك الحين «سائق التاكسي» (1976)، في العام التالي أسند سكورسيزي لدي نيرو دوراً أكثر نعومة، هو عازف الساكسفون في دراما عاطفية بعنوان «نيويورك نيويورك»، في العام 1980 قام دي نيرو ببطولة «الثور الهائج» لاعباً شخصية الملاكم جاك لا موتا وكان هذا رابع أفلامه تحت إدارة سكورسيزي.
سنة 1982 وقع اللقاء الخامس عبر فيلم بعنوان «ملك الكوميديا». دي نيرو هنا في ضوء جديد. إنه ليس في دور درامي كما في السابق، بل في دور كوميدي يمكن اعتباره تمهيداً لفيلمه الحالي «الكوميدي»، تبع ذلك عودة سكورسيزي- دي نيرو إلى حلبة المافيا النيويوركية في «صحبة جيدة» (Goodfellas) سنة 1990 وفي العام التالي لعب دي نيرو دوراً شريراً في «كايب فير» لجانب نك نولتي وجسيكا لانج. ثم حدث اللقاء الثامن بينهما عبر فيلم «كازينو» الذي تابع فيه سكورسيزي مسيرة أفلام العصابات ولو أنها تتخذ الآن لاس فيجاس مقراً لها.
لو حسبنا أفلام دي نيرو الجادة والجيدة فقط، حاذفين بذلك نحو ثلاثين فيلما من أفلامه التسعين، لبقي لدينا كيان صلب من الأفلام والأدوار الجيدة أو- كحد أدنى- المقبولة. أمر لم يكن دي نيرو على علم به مطلقاً عندما بدأ، وهو ما زال في سن العشرين من العمر، رحلته ممثلاً.
ولد في نيويورك في السابع عشر من آب/‏ أغسطس سنة 1943. والده روبرت (بالاسم نفسه) كان رسّاما ونحّاتاً ويكتب الشعر أيضا. ووالدته، فرجينيا كانت أيضاً رسّامة. وحين انفصلا، بقي روبرت الابن مع أمّه وكان لا يزال في الثانية من عمره. لكن أباه كان يأخذه إلى السينما معه وحين يعود الابن إلى البيت يبدأ بتمثيل المشاهد التي حفظها في باله. في سن العاشرة كان له ظهور مسرحي لتقديم بعض الفقرات في أعمال محلية بتشجيع من والديه. بعد عشر سنوات أخرى نقل الهواية إلى أولى عتبات الاحتراف عندما مثل فيلمه الأول «لقاء». فيلم مغمور غير متوفّر قام بتحقيقه وكتابته وإنتاجه وتوليف واحد باسم نورمان شايتن كان حاول شق طريقه في ظل السينما المستقلّة ونفّذ فيلمين فقط «لقاء» (1965) كان أحدهما. ثم نجد دي نيرو في دور بطولة في فيلم منسي ثان لمخرج متوقّف آخر هو جوردان ليوندوبولوس سنة 1969 وهو العام نفسه الذي من المعتقد أنه لعب دوراً ثانوياً في فيلم فرنسي من إخراج مارسيل كارني عنوانه «ثلاث غرف في مانهاتن».
كل هذه الأفلام المجهولة والمنسية كانت تمهيداً لوقوف دي نيرو على أولى عتبات الشهرة وذلك عندما مثل لحساب المخرج الجيد برايان دي بالما فيلم ««حفلة العرس» لجانب جيل كلايبورج في واحد من أدوارها الأولى أيضاً. ودي بالما اختاره لفيلمه التالي «هاي، موم» سنة 1970 بعدما كان المخرج والمنتج المستقل روجر كورمان وضع دي نيرو بين ممثليه في فيلم الجانجسترز «الأم الدموية» لجانب شيلي ونترز وبات هينجل ودون ستراود وبروس ديرن.
من ذلك الحين تكاثر ظهوره ولفته الأنظار ولو عبر تلك الأفلام الصغيرة التي وجد نفسه فيها مثل «بوكسكار برتا» لروجر كورمان الذي كان اكتشف قبله ببضع سنوات الممثل جاك نيكولسون. من هنا اختاره مارتن سكورسيزي لدور بطولة مشتركة في «شوارع منحطة»، تبعه بدراما رومانسية بدت غريبة عليه عنوانها «أليس لم تعد تعيش هنا». لكنه سكورسيزي، كما تقدّم، هو من دفعه صوب تأليف تلك الأداءات البراقة التي اشتهر بها منذ ذلك الحين.

أوسكاران

من هذا الدور انطلق لدور أكثر أهمية في «العراب 2» لفرنسيس فورد كوبولا حيث لعب شخصية فيتو كارليوني، التي كان مارلون براندو أداها في «العراب» (الأول) سنة 1971. للجزء الثاني كان لدينا اثنان يلعبان الدور نفسه: براندو في عمر متقدم ودي نيرو في شخصية كارليوني شاباً.
نال دي نيرو عن هذا الدور أوسكاره الأول، في فئة «أفضل ممثل مساند»، لكن ما هي إلا بضع سنوات حتى نال أوسكاره الثاني، وهذه المرّة في سباق أفضل ممثل، وذلك عن دوره في فيلم لاحق لمارتن سكورسيزي هو «الثور الهائج».
في تلك الفترة كان دي نيرو مثالاً حديثاً ومعاصراً لما خطّه مارلون براندو ورود شتايجر وكارل مالدن على الشاشة من أداءات. كان يبذل لتأمين الشكل الخارجي للدور ويعمل حثيثاً على الربط بين ذلك الشكل وبين مكنونات شخصيته.
لفت دي نيرو كل الأنظار بعد الأفلام الأولى ما جعله يرتبط سريعاً مع بعض أهم مخرجي السينما: استعان به إليا كازان في «التايكون الأخير» (1976) ولو أن الفيلم نسخة معتدلة القيمة بالنسبة لأعمال كازان الأولى، وطلبه الإيطالي برناردو برتولوتشي ممثلاً أساسياً في فيلمه «1900»، ثم عرج عليه سكورسيزي في فيلميه «نيويورك، نيويورك» (1977) و«الثور الهائج» (1980). بينما كانت لدي نيرو وقفة مهمّة جداً عبر فيلم مايكل شيمينو «صائد الغزلان» سنة 1978.
بقي هذا الصرح المسمّى دي نيرو شامخاً بأدواره إلى أن قرر أنه شبع من الأدوار الجادة ولجأ بعد ذلك إلى أدوار كوميدية بدأت جيداً بفيلم «نحن لسنا ملائكة» (1989) ثم انحدرت إلى سلاسل ذات كسب سريع مثل «حلل هذا» و«قابل الأبوين» و-مؤخراً- «الجد القذر». لكنه حافظ على التنويع لاعباً أدواراً أولى في أفلام بوليسية ذات غالبية ضحلة وآخرها فيلم بعنوان «السرقة» وآخر هو «رجل الأكياس». الاستثناءات الفعلية كانت «كايب فير» لسكورسيزي و«حرارة» لمايكل مان و«كوب لاند» لجيمس مانجولد ثم «جاكي براون» لكونتين تارانتينو.
في التسعينات وما بعد عرفت أفلام دي نيرو ثلاثة أنواع أساسية:

• أفلام داكنة الملامح والأجواء كما في «كايب فير» و«ماد دوج أند جلوري» حيث دي نيرو يعاني من عقد نفسية شديدة التأثير أو يتعرض لأحداث عنيفة تكشف عن ذاته القلقة.
• أفلام كوميدية مثل «حلل هذا» و«قابل الآباء» جاي روتش- 2000] و«قابل آل فوكرز» وكل منها تألّف من بضعة أجزاء وجميعها تحت المستوى الفني الذي يمكن له حماية أي رغبة من الممثل في الحفاظ على تميّزه.
• الجانب الثالث بوليسي وأدبي متعدد وبعضه أفضل من بعض: هو في ثلاثة من أعمال جيّدة هي فيلم كونتين تارانتينو الجيد «جاكي براون» (1997) وفي فيلم جون فرانكنهايمر «رونين» (1998) وفيلم مايكل مان «حرارة» (1995) الذي يحمل بعض أفضل ملامح دي نيرو في التسعينات، في الحقيقة هذا هو وضع الأفلام الثلاثة بسبب ما تتمتّع به من صيانة فنيّة، كتابة وإخراجاً.
في السنوات العشرين الأخيرة، انطلى عليه ما انطلى على سواه: قبل بأعمال لم تتساوَ مع وعوده السابقة، لكن الواقع هو أنه حين سنحت له الفرصة (متمثّلة بمخرج جيد ومادة قويّة) لم يتوانَ عنها. وهو لا يزال يفعل ذلك.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"