عادي
مشاهد العنف والقتل لا تثير اشمئزاز الجمهور

«جوكر».. فيلم على حدود الخطر

03:21 صباحا
قراءة 4 دقائق
مارلين سلوم

لا تجد دائماً أفلاماً تحكي عن مريض نفسي، يكون هو بطلها الرئيسي، بل ومحركها، ومصنفة «جريمة»، وفيها مشاهد غير قليلة من العنف، والقتل، وفي الوقت نفسه غير معقدة، سلسة في سياق أحداثها، تقنعك فتقبل عليها بلا اشمئزاز، أو نفور. «جوكر» الذي شهد إقبالاً كثيفاً منذ عرضه نهاية الأسبوع الماضي، محققاً أرباحاً غير مسبوقة لشركة «وورنر بروس» هذا العام، حيث فاقت إيراداته في ثلاثة أيام فقط، ٢٣٤ مليون دولار، بينما تكلفته الإنتاجية لم تتجاوز ال ٥٥ مليوناً؛ فيلم يأخذك إلى عالم الأفلام النفسية غير المعقدة، كأنك في مسرح، وأمامك ممثل عبقري يجمع كل التناقضات، وكل الوجوه في وجه واحد، ويعبّر عن حال الإنسان في مجتمعات عدة، وعن السياسة، وما يسمّونه ثورات، ومن يحركها.
ليس العمل الأول الذي يتناول شخصية «الجوكر» المعروفة، التي أطلقتها شركة «دي سي كوميكس» عام 1981، وآرثر هو الأخ غير الشقيق لبروس واين الذي يصبح باتمان، ونراه طفلاً في هذا العمل، ولا العمل الأول الذي يجعل من المهرّج قاتلاً، لكنه قد يكون الأكثر تميزاً وإتقاناً، لدرجة أنك ترغب في التصفيق للمخرج، وكاتب العمل تود فيليبس، وشريكه في التأليف سكوت سيلفر، والبطل جواكين فينيكس، الذي يستحق الأوسكار عن هذا العمل، (علماً بأن الفيلم حاز جائزة الأسد الذهبي لأفضل فيلم في مهرجان فينيسيا السينمائي)، كذلك فريق العمل خلف الكواليس من ماكياج، إلى إضاءة، وصوت، وموسيقى.
فيلم يمشي على حدود الخطر، يقدم لك المجرم مع كل الخلفيات والدوافع التي أدت به إلى ارتكاب جرائم بشعة، بهدف الانتقام، والمفروض ألا تتعاطف معه؛ ويقدم لك البطل المريض نفسياً، الذي يتناول مجموعة أدوية تساعده على الحفاظ على توازنه كي يستمر في عمله، وإعالة والدته المريضة، ومواجهة ظروفه المادية، وفقره، لكنه يفاجأ بإلغاء المساعدة، وتوقف العلاج، وعدم منحه أي مساعدة من قبل الدولة، ما يعيده إلى الوراء فتتدهور حالته تلقائياً. والمفروض أن تتعاطف معه. هنا تكمن قوة المخرج في القدرة على إقناعك بالقصة، وعدم الغرق في دهاليز الأمراض النفسية، والتعقيدات التي قد يضيع في متاهاتها المشاهد، وعدم تبرير الجريمة بشكل يدفع بالجمهور، خاصة المراهقين والشباب، إلى التعاطف معها، واعتبارها واقعاً لا بد منه.
اسمه آرثر فليك. الوجه غامض، مع بعض التشوهات. وظيفته إضحاك الناس، ورسم قناع المهرّج على وجهه يومياً. نحيل، مبتسم دائماً، يعاني ضحكاً هستيرياً، يدخله في أزمات كثيرة، يخسر عمله بسببها. يتعرض للتنمر من مراهقي وعصابات الشوارع. ويكبت وجعه إلى أن توحي له حركة عفوية من جارته صوفي (زازي بيتز)، بالرد على من يغضبه، أو يسخر منه بالقتل رمياً برصاص مسدس أهداه إياه زميله بهدف مساعدته على حماية نفسه، في إسقاط تلقائي على شيوع اقتناء الأسلحة من قبل الأفراد في أمريكا بحجة الدفاع عن النفس. ويعيش قصة حب وهمية مع صوفي، ويختلط عنده الخيال بالواقع.
«أسوأ ما في المرض العقلي، أن الناس يتوقعون منك أن تتصرف كأنك لست مريضاً». هذه العبارة التي دوّنها آرثر في مفكرته، تعكس وعيه التام بمرضه، وانزعاجه من عدم تقبّل الآخرين لوضعه الاستثنائي، وتجاهلهم له بشكل تام. وحين يستخدم سلاحه لأول مرة، فيقتل ثلاثة شبان يعملون في شركة توماس واين المرشح للانتخابات، (بريت كولن)، ولا تتمكن الشرطة، ولا التحقيقات من التعرف إلى المجرم لأنه «مهرّج» رسم على وجهه فضاعت ملامحه الحقيقية، يشعر بذاته وبأنه «حقق شيئاً ما». وتصدّر الخبر الصحف والشاشات يوحي له بأنه أصبح مهماً، وأن ما فعله جعل العالم يتحدث عنه.
في نوبات الضحك التي تنتاب البطل، مشهد رائع في عمق مدلولاته، وصعوبة أدائه، و«عبقرية» التمثيل فيه. ضحك قوي لدرجة الاختناق، تشعر بأنه نابع من القلب، بينما القلب يرتعش خوفاً، وحزناً، أو غضباً. ابتسامة خلفها رغبة جامحة في القتل. إنسان يبدو سعيداً بلا هموم، وأعباء، بينما الوحدة تمزّقه، وحقيقة والدته تدفعه إلى المزيد من الجنون. وجواكين فينيكس الذي خسر الكثير من وزنه من أجل هذا الدور، لدرجة أن تظهر عظام قفصه الصدري في أحد المشاهد كأنه هيكل عظمي يتنفس، منح الشخصية أبعاداً كثيرة، تفوّق بها على كل من سبقوه من نجوم أمثال جاك نيكلسون، وجاريد ليتو، وهيث ليدجر الذي سارع الجمهور إلى إجراء مقارنات بينه وبين جواكين لمعرفة أيهما أفضل «جوكر».
روبرت دي نيرو، يؤدي دور موراي فرانكلين، مقدم برنامج «توك شو» مشهور، يتقاطع طريقه مع طريق آرثر الشديد الإعجاب به، عندما يقدم فقرة في إحدى الحلقات، يسخر فيها من الممثل الكوميدي آرثر فليك، ثم يستدعيه إلى برنامجه لأن الحلقة حققت نسبة مشاهدة عالية. إنه المشهد الفصل، والوصول إلى ذروة القصة، ومضمونها، مع انتشار الفوضى في الشوارع، الكل يضع فيها قناع «جوكر». شباب ثائر، غضب وتكسير، مواجهة مع رجال الأمن. والمشهد الأجمل هو إفلات آرثر من بين أيدي الشرطة، وإشرافه على الموت، ثم صحوته مجدداً منتصراً، زعيماً مجنوناً، يرسم ابتسامة بالدم على وجهه، والشباب من حوله يهتفون. مشهد مرسوم بحرفية عالية، يجسد الكثير والكثير من المعاني، ينتقد الدول التي لا تعير اهتماماً للأمراض النفسية، ولا تدعم المرضى ليتمكنوا من تلقي العلاج على نفقتها، علماً بأنهم الأكثر حاجة للدواء، ويشكلون خطراً مباشراً على أنفسهم، وعلى الآخرين، وعلى الدولة التي ينتمون إليها أيضاً.


صورة طبق الأصل ل«الربيع العربي»

مشهد خروج الشبان مرتدين أقنعة على وجوههم، وحالة الفوضى التي أثاروها، ومواجهتهم مع رجال الأمن، والتخريب، كأنه صورة طبق الأصل لانطلاق ما سمي بالربيع العربي، حيث ارتدت مجموعات قناع «مجهول» يشبه الجوكر بالأبيض والأسود، وكان هو شعار تلك المجموعات التي تحركت لهدم دول، ورفض الأنظمة.. كأن الفيلم يقول إن من تحركوا لتخريب دولهم انساقوا خلف «جوكر» ما مريض نفسياً.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"