عادي

23 عاماً على رحيل غانم غباش

02:31 صباحا
قراءة 5 دقائق

توافق اليوم الذكرى الثالثة والعشرون لرحيل المغفور له بإذن الله غانم غباش، عرفناه كاتباً وصحافياً، وحامل قلم لا تلين له عزيمة، يخوض المعارك الكبيرة بقلمه من دون ملل أو وجل، أو تردد في قول ما يعتقده أنه الصحيح، فقاده تأمله في حياة شعب الإمارات والأمة العربية، إلى الانحياز المطلق للشعب وللإنسان العادي ومواجهة كل ما هو ضد هذا الإنسان بكل تجليات هذه المواجهة وفي جميع ميادينها .

عرف المرحوم منذ صغره بحبه للقراءة واهتمامه بإماراته وبوعيه التاريخي والحضاري، فكان محل ثقة الآخرين بعمله الدؤوب، فاندفع إلى المجال العام مقتحماً كل الآفاق والأبواب المتاحة، ومبادراً لخلق آفاق أوسع، ولانتزاع مكاسب أكبر، فكان له إسهامه في الإرهاصات الثقافية الأولى من بداية السبعينات عبر بعض المجلات التي أدت دوراً بارزاً في التعبير عن جيل له رايته ودوره في مصير الوطن .

كما صقلت مدرسة الحياة الكبرى شخصيته ومواهبه فعاد بعد سفره إلى ربوع الوطن متسلحاً بخبرة وتجربة وثقافة تؤهله لمواجهة إرهاصات عصر النفط الذي كان يقرع بوابة المنطقة، فكان له الفضل الأكبر في إخراج أول قانون للعمل والعمال في الدولة الاتحادية .

وحسبنا ما قاله عبد الغفار حسين رئيس مجلس إدارة جمعية الإمارات لحقوق الإنسان في الذكرى الخامسة عشرة لرحيل غانم غباش في مؤسسسة العويس الثقافية بدبي: هناك شخصان، رحلا عن دنيانا واحداً بعد الآخر، لا ثالث لهما في موقفهما السياسي بين الراحلين في الإمارات . نحن لا نتكلم هنا عن الأحياء (أطال الله أعمارهم) . وهذان الشخصان، مارسا العمل السياسي بشكل منظم لم يكن للناس عهد به، بشكل فيه التركيز، وفيه الاستقلالية، وطرحهما لم يكن متأثراً وموجهاً من أحد، وبشكل كنت، أنت وأنا وغيرنا، نعرف ماذا يريد هذان الشخصان، وما هو برنامجهما السياسي والاجتماعي، وما ظاهرهما، وما هو باطنهما .

هذان الشخصان هما تريم عمران، وغانم غباش، وكلاهما تركا أتباعاً ورفاقاً، وهذا شأن القياديين المتميزين الذين يتركون بعد رحيلهم أثراً على رفاقهم . قبل هذين الشخصين السياسيين، لا نستطيع أن نوجه إصبع الإشارة إلى أحد في تاريخ الإمارات، ونقول هذا كان سياسياً وعنده برنامج عمل سياسي طرحه على الناس وعرف به .

نشأته

ولد المرحوم غانم غباش في دبي عام ،1946 وقدر له ولجيله بالذات أن يعيش تقلبات تاريخية مهمة في حياة الإمارة، فكان قارئاً نهماً منذ صغره، واستقى تعليمه من مدرسة الحياة وتجارب الآخرين الذين يهفون إليه ويهفو إليهم بمحبة مميزة تركت بصماتها المشتركة في ملحمة العلاقات الإنسانية الخالدة .

كما كان المرحوم محل ثقة ومصدر تجميع للقلوب بالنسبة إلى الكثيرين من شباب الدولة وخصوصاً شباب دبي، وهو ما أهله بسهولة لتولي منصب رئيس اتحاد كرة القدم في الإمارات، ليكون بذلك أول رئيس له في بداية السبعينات، بعد نشاط حافل وطويل في الأندية الرياضية وبين أوساط الشباب .

الحياة العملية

كان غانم مرافقاً التطورات، وكانت أحلامه تتركَّز في اتجاه قيام دولة حديثة في الإمارات تستند إلى مخزون الثروة الوطنية، من جهة، وإلى حاجة سكان البلاد للدخول في العصر وتحولاته، من جهة ثانية . وإذ كانت أحلامه ومطامحه تتوسع كان يدخل في الحياة العامة ويشارك في النشاطات العامة المتعددة التي حفلت بها دولة الإمارات في تلك الفترة .

أهلته شخصيته ومجموعة من الصفات الإنسانية، في مقدمتها أخلاقياته، لأن يتولى في سبعينات القرن الماضي منصب رئيس اتحاد كرة القدم في دولة الإمارات . وكان أول شخص يتولى ذلك المنصب في البلاد .وكانت الأندية الرياضية في تلك الفترة تزاول أنشطة ثقافية إلى جانب أنشطتها الرياضية . وكان غانم بذلك يدخل معترك الحياة منذ شبابه الأول .

تنقَّل في ميادين مختلفة من العمل في القطاع الخاص وفي مؤسسات الدولة . وكان أهم نشاط قام به في مؤسسات الدولة عندما تولى منصب الوكيل المساعد لشؤون العمل والعمال في وزارة العمل والشؤون الاجتماعية . ويعود له الفضل في إخراج أول قانون للعمل والعمال في دولة الاتحاد . وهكذا كان يتحول غانم في ميدان النشاط والعمل والتجربة إلى رجل صاحب قضية وصاحب رؤى سياسية واجتماعية وثقافية . وكانت أفكاره التي سرعان ما بدأ يبثها في كتابات وأحاديث ولقاءات، تعبِّر عن طموح جيل بكامله في الانتقال بالبلاد إلى معارج الحرية، وإلى التقدم الإنساني في مجالاته كافة .

إسهاماته الثقافية

إنَّ النقلة النوعية الكبرى في حياة غانم تمثلت في إسهامه الأساسي في إصدار مجلة الأزمنة العربية بين عام 1979 وعام 1981 . وتحوَّل إلى كاتب ومفكِّر وصاحب مشروع سياسي . وصارت الكلمة مجال نشاطه وأداته في المعارك السياسية والاجتماعية والثقافية التي خاضها مع عدد غير قليل من زملائه وأصدقائه الذين كانوا يشاركونه الرؤى ذاتها والهموم والهواجس والأفكار والمطامح .

وكانت كتاباته تتميز بالشجاعة في طرح الأفكار والمواقف، مستنداً في ذلك إلى أنه كان يعبِّر عن مصالح شعبه ووطنه . وكان يستخدم السخرية أسلوباً ولغة في التعبير عن آرائه ومواقفه . وكانت معظم مقالاته تنشر بتوقيع بلوطي . وكانت تلقى شعبية كبيرة وسط القرّاء . ومن موقعه كمثقف أسهم في تأسيس أول اتحاد للكتّاب والأدباء في دولة الإمارات، وفي تأسيس النادي الثقافي الاجتماعي وكذلك النادي الأهلي الذي كان عضواً في لجنته العليا .

كان عقد الثمانينات، من بداياته حتى عامه الأخير، عام الوداع، الميدان الأكثر رحابة والأكثر عطاءً في حياة غانم . وهو العقد الذي أصبح فيه اسمه يتجاوز دولة الإمارات ومنطقة الخليج إلى العالم العربي . صار غانم يعرف في الأوساط الخليجية والعربية كمفكِّر عربي ديمقراطي متميِّز . كان يقتحم صعاب الحياة مجاهداً، معانداً ومغالباً المرض الذي كان قد أصابه بالشلل النصفي وأقعده من دون أن يتمكَّن من تقييد حركته . وظلَّ وهو في تلك الحالة يبدع في الفكر والسياسة والثقافة حتى آخر لحظة من حياته .

من قرأ للمرحوم يعرف أن فكره وقلمه مسكونان بالقضايا الأساسية للناس والجماهير العربية أينما وجدوا، وأنه مثقف ملتزم بالوقوف إلى جوار الإنسان المقهور المسلوبة حريته وكرامته وخبزه .

ومن عرف غانم عن قرب يعلم شغفه بالإنسان، بسعادته وكماله وحريته ويعرف مجالسه كم كان يكرس ساعاته بل كل لحظاته من أجل إسعاد الصغار قبل الكبار .

وبادر اتحاد الكتاب بعد رحيله إلى إعلان مسابقة عن القصة القصيرة باسمه التي شارك فيها عدد كبير من كتاب القصة وأسهمت في رفد الساحة بأصوات جديدة .

الحس العربي

لم يكن المرحوم إماراتياً في فكره ومنهجه فقط، بل كان يلامس جروح الإنسان وإن اختلفت جنسيته، لأن غانم اختار الانحياز لقضايا الإنسانية والكشف عن المستور والوقوف بصرامة ورجولة .

كان للهم العربي نصيب في عمل المرحوم تمثل في تأسيس وتعزيز دور اللجنة الدائمة لمناصرة المقاومة الوطنية في لبنان، حيث اضطلع بدور أساسي على مستوى الوطن العربي في المبادرة إلى تقديم الدعم الشعبي لتلك المقاومة .

إن مسار حياة المرحوم وغنى تجربته وتنوعها إضافة إلى سعة إطلاعه وقراءاته المكثفة الشاملة قادته إلى التأمل في حياة شعب الإمارات والأمة العربية، وإلى تحديد خياره الأساسي وهو الانحياز المطلق للشعب وللإنسان العادي .

ومن المحزن كثيراً أن المرحوم لم يكتب كل ما كان يود كتابته، ولم ينجز كل ما كان يفكر فيه وينوي إنجازه، ولكن العزاء أنه خلال رحلة حياته القصيرة كان معطاء إلى حد العطاء الأقصى، وكان معلماً ومبشراً بأفكار سامية لم يفصلها قط عن الممارسة، وكان محباً عظيماً ورائعاً للإنسان والوطن والقيم الإنسانية الكبرى والنبيلة، وكان محارباً صلباً وجلداً دون كل ذلك وحتى الرمق الأخير، وهو إلى الآن مازال مؤثراً استمر تأثيره حتى اليوم من خلال طلابه ومريديه وأصدقائه .

إن فقدان غانم غباش يخلف مرارة في حلق كل محب لهذا الوطن ولكل محب للإنسان العربي وقضاياه الأساسية .

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"