عادي
العقل طريق السعادة

أبو الحسن العامري.. الفيلسوف المجهول

02:56 صباحا
قراءة 6 دقائق
إعداد: محمد إسماعيل زاهر

«المؤثر للعلم والحكمة، والمختار للجود والعدالة، والمواظب على التعفف والعبادة، والمخلص للتوكل والعقيدة، جدير بأن يصير في أنحائه كلها مؤيداً بالعقل الأصيل، والرأي السديد، والفراسة القويمة، والاطلاع على المعاني المغيبة. وليس يُشك أن من آثر لنفسه هذه السيرة لم تعرض له مخافة الذل ولا مخافة الفقر... فيوصف عند ذلك بالحرية والعدالة، بل بنبل الهمة وكبر النفس»، كلمات يكتبها الفيلسوف أبو الحسن العامري في القرن الرابع الهجري، تختزن عدة معان في الوقت نفسه، وتتنقل بسلاسة ويسر بين العلم والحكمة والأخلاق، تتأمل في مسارات السلوك الاجتماعي القويم وما ينبغي للإنسان أن يتحلى به من فضائل ليصل إلى المبتغى الذي حلم به كل الحكماء والأدباء ونعني بذلك الحرية وقرينتها العدالة في الفضاء الاجتماعي ونبل الهمة وكبر النفس الواجب توافرهما على المستوى الفردي.
القارئ لسيرة ومؤلفات العامري لابد أن يستوقفه ذلك القدر الكبير من المؤلفات التي تميل في مجملها إلى الفلسفة، وهنا يحق له السؤال أين العامري من قوائم الفلاسفة المسلمين المقررين على طلبة المدارس والجامعات وفي المؤلفات الفكرية العامة؟ عندما نفتش عن العامري ضمن قوس واسع ممتد لا يبدأ من تلك الفضاءات ولا يتوقف عند موسوعات الفلسفة و الكتب المؤرخة لأعلامها لا نكاد نعثر للعامري على أثر، برغم أن مسكويه يصفه في «تجارب الأمم» بالفيلسوف التام و «قد شرح كتب أرسطاطاليس وشاخ فيها»، وكان على علاقة بابن العميد وابنه أبي الفتح ابن العميد، بل إن التوحيدي يشير إلى صداقة ربطته لفترة، ربما تمتد لخمس سنوات، بمسكويه نفسه.
الأهم من ذلك تلك المناظرات التي قامت بين العامري وكبار المثقفين آنذاك في بغداد، وأورد التوحيدي طرفاً منها في أكثر من كتاب، ففي «أخلاق الوزيرين» يقول التوحيدي: «انعقد المجلس في جمادى الآخرة سنة أربع وستين وثلاثمئة، وغص بأهله، فرأيت العامري فسأل أبا سعيد السيرافي: ما طبيعة الباء من بسم الله الرحمن الرحيم؟، فعجب الناس من السؤال، هو هنا يدخل في نقاشات بدت ذات طبيعة بيزنطية لا طائل من وراءها ولكنها تؤكد معرفة أعلام عصره بمكانته المرموقة.

رحلات المعرفة

في كتاب «المقابسات» يقول التوحيدي عن العامري: «ورد بغداد سنة أربع وستين وثلاثمئة في صحبة ذي الكفايتين، فلقى من أصحابنا البغداديين عنتاً شديداً ومناكدة، وذلك أن طباع أصحابنا معروفة بالحدة والتوقد على فاضل يُرى من غير بلدهم. وذلك كله جالب للتنافس، مانع من التناصف».
ولد العامري في نيسابور في بدايات القرن الرابع الهجري، وتنقل بين الرى وبخارى وبغداد، وفي كل هذه المراكز الثقافية المنتعشة آنذاك تعرف إلى ذلك العالم، ودخل في مناظرة هنا أو هناك، والمعلومات عن حياته شحيحة للغاية، ولكن هناك من يؤرخ لوفاته بعام 381، وما يدعو إلى ضرورة الحفر عن تفاصيل حياة وآراء ذلك الفيلسوف الذي كتب عن السعادة والأخلاق والتربية والنفس ضمن مباحث الفلسفة القديمة: الإلهيات والمنطق والطبيعيات، تلك المؤلفات العديدة التي خلفها وراءه.
لنستمع إليه في رسالة «الأمد على الأبد» وهو يتحدث تحت عنوان «نسبية المعاني الجسمية وإطلاقية المعاني الروحانية»، يقول العامري: «من الخيرات ما هو مطلق، كالحكمة والصدق والعدالة والجود، ومن الخيرات ما هو مقيد، وهي متى استعملت استعمالاً حميداً وصفت بالخير، ومتى استعملت استعمالاً ذميماً وصفت بالشر كالثروة والرئاسة والجمال والقوة، فإنها كلها متى روعيت على موجب الشرع الإلهي نزلت بالإضافة إلى الأنفس النطقية منزلة الأجنحة المرقية لها إلى معدن الكرامة، ومتى لم ترع على موجبه صار الأمر بالضد، وسببه أنها ليست بمطلوبة لذواتها، لكنها تطلب لأن تصير معاونة لنا على حسن خلافة الله جل جلاله في عمارة هذا العالم»، والواقع أن جهد العامري الفلسفي لا يرتبط بالجانب الأخلاقي الذي ينطلق من أرضية تميل به أحيانا إلى النزوع نحو التصوف ولكن تمتلئ كتبه ورسائله بالموضوعات الفلسفية المختلفة، وكثيراً ما نجد أنفسنا أما لغة شديدة التخصص تذكرنا بفلاسفة الإسلام الكبار مثل ابن سينا وابن رشد.. الخ.
إن رسالته «الأمد على الأبد» تدعو من خلال عنوانها إلى التفكر، ويتجول صاحبها بنا بين مفتتح يحلل فيه أسباب اختلاف الناس في العقائد ليذكرك بالشهرستاني أو البغدادي في «الملل والنحل» و«الفرق بين الفرق» على التوالي، ليعرج على أنواع التواريخ وأصناف الأمم ليثير مخيلتك بتلك المقدمة الطويلة التي كتبها مسكويه في فاتحة كتابه «تجارب الأمم»، أما حديثه عن «السحر والرقى» فيحيل إلى ابن خلدون.

الحكماء الخمسة

يؤرخ العامري للحكمة بخمسة أعلام لا يرى غيرهم يستحق لقب الحكمة أو الفيلسوف، وهم لقمان الحكيم استناداً إلى النص القرآني الكريم، وأناذقليس وفيثاغورس، وسقراط، وأفلاطون وأرسطو، يفاجئك مثلاً برأي جدلي، في راهننا الثقافي حيث ما زلنا نبحث عن جذور الحكمة مشرقية أم يونانية، يورده كأنه معلومة معروفة و متداولة عن فيثاغورس: «وكان تعلم الهندسة من المصريين، ونقل العلوم الثلاثة أعنى علم الهندسة وعلم الطبائع وعلم الدين إلى بلاد اليونان، ثم استخرج بذكائه علم الألحان»، وبإمتاعية عن محاكمة سقراط، ومعرفة بهوميروس، ذلك الذي يقطع البعض بأن القدماء لم يسمعوا به أو عرفوه وتجاهلوه.
أما مشاهير الإغريق الذين يوصفون بالحكمة فلا يعترف بهم العامري «وقد تعرض جالينوس في زمانه حين كثرت تصانيفه لأن يوصف بالحكمة، أعني أن يُنقل عن لقب الطبيب إلى لقب الحكيم، فتهزأوا به وقالوا: عليك بالمراهم والمسهلات وعلاج القروح والحميات»، و«العجب من أهل زماننا أنهم متى رأوا إنساناً برع في كتاب أقليدس وضبط أصول المنطق وصفوه بالحكمة، وإن كان خلوا من العلوم الإلهية، حتى أنهم ينسبون محمداً بن زكريا الرازي لمهارته في الطب إليها، هذا أعزك الله مع هذيانه في القدماء الخمسة وفي الأرواح الفاسدة».
هي الصرامة التي يحددها العامري لمن يطلق عليه لقب حكيم أو فيلسوف حتى لو امتد التقييم إلى أستاذه أبو زيد البلخي: «ولقد كان شيخنا أبو زيد أحمد بن سهل البلخي، رحمه الله، مع توسعه في أصناف المعارف، واستقامة طريقته في أبواب الدين، متى نسبه أحد من موقريه إلى الحكمة يشمئز منه، ويقول: لهفي على زمان يُنسب فيه ناقص مثلي إلى شرف الحكمة... وهذه كانت حال أستاذه يعقوب بن إسحاق الكندي».
الفلسفة لدى العامري مقرونة بالإيمان، فالحكمة أخت الشريعة وطريقهما العقل، الذي هو الطريق أيضا للسعادة والعدالة والحرية، وهي نفسها قيم يبشر بها الدين، ولذلك لابد أن تستند الحكمة ورموزها إلى الإيمان، يقول على لسان أفلاطون «إنكم إن عرفتم كل شيء فلا تحسبوا أنكم عرفتم شيئا ما لم تعرفوا الله عز وجل»، وعلى لسان أرسطو بعد أن عرف الحكمة: «كنت قبل اليوم أشرب وأظمأ، حتى إذا عرفت الله عز وجل رويت بلا شرب»، وبعد ذلك ينطلق ليؤسس رؤيته للعقل: «إن العقل، وإن صلح لتدبير ما تحته من الموهومات الحسية، وإمساك كافة ما فوقه من المعقولات البديهية، فإنه ليس يصلح لهما إلا بالقوة الإلهية المستعلية عليه».
العامري يورط قارئه في الفلسفة، في رسالة يلفتنا أيضاً عنوانها «التقرير لأوجه التقدير»، يقول تحت عنوان «ما يٌحتاج إلى معرفته في وجه التقدير»: «إن المخطور بالبال متى عٌرض على صريح العقل، فإنه لا محالة يحكم فيه بأحد المعاني الثلاثة: إما بأنه واجب وجوده، أو بأنه ممكن وجوده أو بأنه ممتنع وجوده»، هو الواجب والممكن والممتنع، آفاق معرفية ثلاثة أفاض في شرحها القدماء.
وبرغم تمكن العامري من المصطلح الفلسفي وصعوبة كتاباته أحياناً، وإدراكه أنه من أوائل من يقعدون للفلسفة في الفضاء العربي الإسلامي، وشروطه التي يضعها لمن ينطبق عليه لقب الحكيم أو الفيلسوف، فأنه لم يستطع الانسلاخ من فضاء عصره حين يدمج قضايا علم الكلام بالفلسفة، فنجده يتحدث في رسالتين حول قضية الجبر والاختيار من منطلق يميل إلى أفكار المعتزل، يتناول ماهية الفعل وأقسامه وأسبابه، يشرح مفردات مثل التوفيق والخذلان وخلق الأفعال والجبر والتفويض، مسلحاً بأدوات علم الكلام كما عرفه المسلمون الأوائل.
امتلك العامري لغة الفلسفة وأحاط بأبعادها وقضاياها، ويشير سعيد الغانمي في مقدمة تحقيقه لأربع رسائل للعامري إلى أن فيلسوفنا ظل مجهولاً حتى عام 1967 عندما نشر الدكتور عبدالحميد غراب كتابه «الإعلام بمناقب الإسلام»، وبرغم ذلك ظل العامري مجهولاً في العالمين العربي والغربي، لأنه لم يؤسس لبناء فلسفي مستنسخ من الفلسفة اليونانية، وبقراءة عناوين كتب ورسائل العامري التي تركها يتبين لنا أنه ظلم من قبل القدماء أيضا وربما يعود ذلك إلى نجم الفلسفة الإسلامية الذي سيسطع بعد سنوات من وفاة العامري ونعني به ابن سينا، ذلك الذي شرح أفلاطون وقدمه للعالم العربي والإسلامي بعد أن كان العامري قد أشار إلى صعوبة قراءة وفهم فيلسوف اليونان الأشهر، وربما يعود ذلك أيضاً إلى أخلاق تميز بها العامري جنبته الترويج لنفسه ووقته من المحن التي تعرض لها الفلاسفة سواء لأسباب سياسية أو فكرية، ونحن نعرف ولعنا بتتبع سيرة أصحاب المحن بغض النظر عن أهميتهم وما أضافوه للفكر العربي أولاً والإنساني بعد ذلك، وربما يكون تراثنا بأكمله في حاجة إلى إعادة قراءة تستكشف أولا وقبل إطلاق الرؤى والأحكام عشرات من المجهولين في هذا العلم أو ذاك الفن، وربما تكون هناك الكثير من الشخصيات التي تحتاج إلى تقييم جديد لمعرفة ما تركته من آراء تساعدنا على المضي قدماً إلى الأمام، فكل قراءة تاريخية هي ابنة الراهن أولاً، التي تجيب عن احتياجاته وتطلعاته.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"