عادي
جواهر الكلام في الشعر والتاريخ

ابن عبد ربه .. عقد الأدب الفريد

01:14 صباحا
قراءة 7 دقائق
إعداد - محمد إسماعيل زاهر:

«إن أهل كل طبقة، وجهابذة كل أمة قد تكلموا في الأدب، وتفلسفوا في العلوم على كل لسان، ومع كل زمان، وإن كل متكلم منهم قد استفرغ غايته وبذل مجهوده في اختصار بديع معاني المتقدمين، واختيار جواهر ألفاظ السالفين، وأكثروا من ذلك حتى احتاج المُختصر منها إلى اختصار، والمُتخير إلى اختيار، ثم إني رأيت آخر كل طبقة، وواضعي كل حكمة ومؤلفي كل أدب أعذب ألفاظا وأوضح طريقة من الأوَّل، لأنه ناكص مُتعقب والأول بادئ متقدم»، صاحب هذا الكلام ابن عبد ربه الأندلسي في مقدمة كتابه «العقد الفريد»، عاش ابن عبد ربه بين عامي 246 و 327ه، ووصفه الفتح بن خاقان ب«حجة الأدب»، وأطلق عليه البعض «إمام أهل أدب المائة الرابعة، وفرسان شعرائها في المغرب كله»، وقال عنه الثعالبي النيسابوري صاحب يتيمة الدهر «أحد محاسن الأندلس علما وفضلاً وأدباً ومثلًا، وشعره في نهاية الجزالة والحلاوة، وعليه رونق البلاغة والطلاوة».
يلاحظ القارئ إشارة ابن عبد ربه إلى المتأخرين في الأدب وكيف أنهم بفعل التطور الزمني أكثر انفتاحا ومعرفة بما أضيف إلى الأدب والثقافة من المتقدمين، وهو المعنى الذي كرره في مواضع أخرى من الكتاب، أما عن سبب تسميه كتابه الشهير ب«العقد الفريد»، فيقول: «وسمّيته كتاب العقد الفريد لما فيه من مختلف جواهر الكلام، مع دقة المسلك وحسن النظام»، ويلاحظ أيضا تأثر الكتاب إلى درجة كبيرة بشخصية صاحبه، حتى أن أحمد أمين يقول في مقدمة تحقيقه لإحدى طبعات «العقد الفريد»: «والحق إن شخصية المؤلف في العقد أوضح من شخصيات المؤلفين في البيان والتبيين، والكامل، والأمالي، وعيون الأخبار، فمؤلف العقد مختار ومنشئ معا، فهو يقدم الباب بمقدمة لطيفة الأسلوب جيدة المعاني، وهو يتبع الباب بما ينشئه من شعره، وهو يشيع في الكتاب آراءه في نقد ما ينقل، ينقد رأي ابن قتيبة في الشعوبية...وله آراء جليلة في النقد الأدبي شائعة في الكتاب».

يقول ابن عبد ربه: اختيار الكلام أصعب من تأليفه، وقد قالوا: اختيار الرجل وافد عقله.. وقال أفلاطون: عقول الناس مدونة في أطراف أقلامهم، وظاهرة في حسن اختيارهم«، نحن أمام كاتب/ أديب/ مثقف بوزن ابن عبد ربه سيختار لنا ما يمتعنا و يثقفنا به، ولذلك تصور كتابه مؤلفاً من خمس وعشرين جوهرة كريمة، اثنتي عشرة في جانب، واثنتي عشرة في جانب آخر، ولكنه لم يسم إلا الاثنتي عشرة الأولى، فمن فريدة إلى زبرجدة، إلى جمانة، فمرجانة، فياقوتة،..الخ، ويعود في الاثنتي عشرة الثانية إلى الأسماء نفسها من فريدة ثانية إلى زبرجدة ثانية....الخ وفي الباب الثالث عشر جوهرة تسمى الواسطة.

زخم أدبي وتاريخي

أمّا الموضوعات التي تناولها العقد، فقد تنوّعت وتوزّعت بين رؤية في السياسة ومبحث في السلطة، والحروب ومدار أمرها، والأمثال والمواعظ، والتّعازي والمراثي وكلام الأعراب وخطبهم وأنسابهم وعلومهم وآدابهم وأيامهم وأخبار مشهوريهم من الخلفاء والقادة، هذا فضلاً عن تضمينه كتابه كثيرا من الآيات القرآنية والأحاديث النبوية، وكثيراً من الأشعار والأخبار التاريخية، وإثباته لنفسه كثيرا من القصائد التي وردت على شكل معارضات لشعر كبار الشعراء في الموضوعات التي استشهد بأشعارهم عليها، وقد تضمّن العقد «ما لا يقل» عن عشرة آلاف بيت من الشعر لأكثر من مئتي شاعر من العصر الجاهلي والأموي والعباسي.
ولد ابن عبد ربه في قرطبة وكانت من أعظم المدن الأندلسيّة، تشبه إلى حد كبير بغداد حاضرة العباسيين، وعاش حياة اللهو لفترة من حياته، غير أنه لم يلبث أن درس اللغة وآدابها والدين وعلومه على يد أعلام عصره، ويظهر أنّ صاحب العقد كان على صلة مع أمراء عصره، فقد مدح أمير قرطبة محمد بن عبد الرحمن الحكم، كما كان على صلة بابنه المنذر أيضا، وفي هذه الحقبة من تاريخ الأندلس كثرت الفتن، حتى إن أحد قوّاد الفتنة، عمر بن حفصون، قد هدّد السلطة الأمويّة، وقد نعته ابن عبد ربه، بالمارق الفاسق.
واتصل صاحب «العقد» كذلك بالقائد إبراهيم بن الحجاج الذي جعل إمارته في إشبيلية، وكان كريماً سخياً على الأدباء والشعراء، فوفد إلى بلاطه معظم علماء الأندلس وشعرائها. وأقام الرجل كذلك علاقات طيبة مع عبد الرحمن بن محمد الملقب بالملك الناصر، الذي بنى مدينة الزهراء، ومدحه بقصائد كثيرة منها قصيدته التي أدرجها في المجلد الثالث من العقد.
يبدأ ابن عبد ربه كل فصل من فصول كتابه ب»فرش» أو ما نعرفه نحن بالتمهيد أو المقدمة، أو العتبة النصية كما يحلو للبعض أن يسميه في النقد الأدبي، ثم يتناول موضوع الفصل في نقاط محددة، وتحت كل نقطة يتجول بنا في التاريخ والحكايات والأشعار والمرويات والأمثال...الخ. في الفصل الأول الذي يطلق عليه «كتاب اللؤلؤة في السلطان»، يبدأ بمبررات وجود السلطان وحاجة البشر إليه بالقول: «السلطان زمام الأمور، ونظام الحقوق، وقوام الحدود، والقطب الذي عليه مدار الدنيا» ثم يحدد نقاط يناقشها في هذه المسألة: ما ينصح به السلطان، اختيار السلطان لأهل عمله، حسن السياسة وإقامة المملكة، بسط العدل ورد المظالم، صلاح الرعية بصلاح الإمام، قولهم في الملك وجلسائه ووزرائه، صفة الإمام العادل، هيبة الإمام في تواضعه، حسن السير والرفق بالرعية، ما يأخذ به السلطان من الحزم والعزم...الخ.
يقول مثلا تحت عنوان «حفظ الأسرار» ، «ناصحا السلطان»،قالت الحكماء: صدرك أوسع من صدر غيرك، وقالوا: سرك من دمك فانظر كيف تريقه، وكتب عبد الملك بن مروان إلى الحجاج بن يوسف الثقفي:

ولا تفش سرك إلا إليك

                  فإن لكل نصيح نصيحا

فإني رأيت غواة الرجا   

            ل لا يتركون أديما صحيحاً

وقالت الحكماء: ما كنت كاتمه من عدوك فلا تطلع عليه صديقك، وقال عمرو بن العاص: ما استودعت رجلا سرا فأفشاه فلمته، لأني كنت أضيق صدرا منه حين استودعته إياه، ثم يسترسل في ذكر كلام للبدو عن حفظ السر ويتابع، وقال المأمون «الملوك تحتمل كل شيء إلا ثلاثة أشياء: القدح في الملوك، وإفشاء السر، والتعرض للحٌرم»، ثم يتجول بالقارئ بين اقتباسات عديدة من القدماء، فمن الأشعار إلى كتاب التاج إلى الحكمة الهندية يصور ابن عبد ربه مناخ عصره سائرا على درب الجاحظ وابن قتيبية والقالي وغيرهم.

يعنون ابن عبد ربه الفصل الثاني من «العقد الفريد» تحت اسم «كتاب الفريدة في الحروب»، ويقول في «صفة الحروب»: «الحرب رحى ثقالها الصبر، ومدارها المكر والاجتهاد، وثقافها الأناة، وزمامها الحذر، ولكل شيء من هذه ثمرة، فثمرة الصبر التأييد، وثمرة المكر الظفر، وثمرة الاجتهاد التوفيق، وثمرة الأناة اليُمن، وثمرة الحذر السلامة، ولكل مقام مقال، ولكل زمان رجال، والحرب بين الناس سجال، والرأي فيها أبلغ من القتال، بعد ذلك يختار أفضل ما يعرفه فيما قيل عن الحرب، فيتنقل بعذوبة بين شعر عنترة والنابغة وطرفة وغيرهم ولا ينسى أن يورد أشعار لنفسه في الحرب

لوامع يبصر الأعمى سناها

                 ويعمى دونها طرف البصير

........

تحوم حولها عقبان موت

                 تخطفت القلوب من الصدور

وفي هذا الفصل يهيمن السرد ونشعر أحيانا بأننا أمام احد المؤرخين فيستمر على مدار صفحات طويلة في رصد قصة المهدي في حرب خراسان، ويخصص مساحة معتبرة لحروب فرقة الأزارقة.

آفاق ممتدة

الجوهرة الثالثة في كتاب ابن عبد ربه كانت ل «الأجواد والأصفاد»، وتناول فيه مفردة الكرم والقدرة على العطاء من جوانبها كافة، و خصص الجوهرة الرابعة ل «الوفود»، وفيها نتعرف إلى رؤية أهل زمانه للسياسة الخارجية و الدبلوماسية، يقدم كاتبنا لموضوع فصله بالقول: «ونحن قائلون بعون الله وتوفيقه في الوفود الذين وفدوا على النبي صلى الله عليه وسلم، وعلى الخلفاء والملوك، فإنها مقامات فضل، ومشاهد حفل يُتخير لها الكلام، وتستهذب الألفاظ، وتستجزل المعاني، ولابد للوافد عن قومه أن يكون عميدهم وزعيمهم الذي عن قوته ينزعون، وعن رأيه يصدرون، فهو واحد يعدل قبيلة، ولسان يُعرب عن ألسنة»، وفي هذا الفصل تنفتح أمامنا مناطق غير مطروقة كثيرا في التأريخ، حيث إسهاب مطول عن وفود العرب على كسرى، ووفود قريش على سيف ابن ذي يزن، ووفود القبائل المختلفة على النبي الكريم، ووفود أفراد وشعراء وقبائل على الخلفاء الراشدين حتى زمن الخليفة العباسي الواثق..الخ. ويعقب هذا الفصل، كتاب «المرجانة في مخاطبة الملوك»، وكأن المؤلف يتدرج من السلطان إلى الحرب إلى السياسة الخارجية و الدبلوماسية إلى كيفية مخاطبة الحكام والتعامل معهم، يغزل على مهل وعبر أربعة كتب/ فصول/ جواهر رسالة متكاملة في علم السياسة ولكن بمعايير عصره، حيث يقطع السياق السياسي التاريخي بفصل عن الكرم.
بعد ذلك يأخذ الكتاب مساره الأدبي الصريح فيخصص فصوله اللاحقة للعلم والأدب، الأمثال، المواعظ والزهد، التعازي والمراثي، الأنساب وفضائل العرب، كلام الأعراب، الخطب، أخبار الكتبة، ثم يعود إلى الخلفاء وأخبارهم وأيامهم في فصلين، ويرصد بعد ذلك أيام العرب ووقائعهم، وأعاريض الشعر وعلل القوافي، وعلم الألحان، والنساء وصفاتهن، والمتنبئين والبخلاء والطفيليين، وبيان طبائع الإنسان وسائر الحيوان، وكتاب في الطعام والشراب، والفكاهات والملح والنوادر. ولنستمع إليه وهو يتحدث عن فضل العلم والأدب: «إنهما القطبان اللذان عليهما مدار الدين والدنيا، وفرق بين الإنسان وسائر الحيوان، وما بين الطبيعة المَلَكية والطبيعة البهيمية، وهما مادة العقل وسراج البدن ونور القلب وعماد الروح».
ركز ابن عبد ربه في كتابه العمدة على أخبار وتاريخ وشعراء وثقافة المشرق الإسلامي، حتى يروى عن الصاحب بن عباد لما وصله الكتاب وقرأه علق قائلاً: «هذه بضاعتنا ردت إلينا، ظننت أن هذا الكتاب يشتمل على شيء من أخبار بلادهم، وإنما هو يشتمل على أخبار بلادنا، لا حاجة لنا فيه»، ومع ذلك ظل كتاب «العقد الفريد» مرجعا استفاد منه الجميع: المؤرخ والأديب والشاعر والمحلل الثقافي والناقد الأدبي، وحتى القارئ الذي يهدف إلى الثقافة العامة أو الاستمتاع بفترة من تاريخ الحضارة العربية الإسلامية صورها ابن عبد ربه ببراعة لافتة في «العقد الفريد»، وبحس المتأخر الذي يمكنه تقديم إضافة مهمة ولافتة إلى المتقدمين عليه زمنيا، وربما يكون هذا الحس أهم ما نفتقد إليه في ساحتنا الآن، وهو درس ابن عبد ربه الأجمل والأبقى.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"