عادي
وجوه من الإمارات

ناصر جبران.. نهر السرد

04:16 صباحا
قراءة 4 دقائق

الشارقة: علاء الدين محمود


حكاية القاص والأديب ناصر جبران (1952 2017)، هي قصة الأدب الرفيع الذي شكل نهراً للإبداع نهلت منه أجيال من الأدباء والكتاب، وينبع هذا النهر من مجموعات استودعها جبران خلاصة خبراته السردية، تلك التي حملت عناوين: «ميادير»، و«نافورة الشظايا»، ثم رواية وحيدة حملت اسم «سيح المهب».. وتحكي تلك العوالم السردية عن قصة مبدع حقيقي تنوعت وسائله وأدواته الإبداعية والتعبيرية، فإلى جانب كونه قاصاً مهماً، فهو شاعر له عدد من الأعمال تركت بصمتها الكبيرة، وهي: «ماذا لو تركوا الخيل تمضي»، و«استحالات السكون»، وكتاب بعنوان: «نفحات الروح والوطن»، ومجموعة من المقالات التي حملت رؤى وأفكاراً متعددة نشرت بعنوان: «عطر الحقول».
وقد شد إنتاجه الإبداعي والفكري انتباه النقاد؛ الأمر الذي جعل من جبران أحد القامات الرفيعة التي ينهض عليها المشهد الثقافي الإماراتي.
لقد تعددت وتنوعت المواضيع التي يطل عليها جبران ويشتغل عليها في أعماله التي تسكنها الهموم بالقضايا الوطنية والقومية، فكانت تلك هي الدوائر التي عبرت عن إبداعاته القصصية والنثرية والشعرية، التي رافقت مسيرته التي انطلقت مبكراً في ثمانينات القرن العشرين فتتالت إصداراته حتى مماته . وكتاباته هي فيض من الحنين، وفي نظمه ونصوصه السردية لغة شعرية شديدة السطوع، تلفت قرائه إلى ماضٍ جميل حيث يجد القارئ نفسه متورطاً في لعبة الشوق.
وداخل هذا المنجز السردي، تتجول الحكايات فيرصد المجتمع وتحولاته، ويبحر في تفاصيل المكان، حيث الحياة الوادعة في الماضي، وتفاصيل البحر وسحره، ومجتمع الغوص وألوانه وقصص البشر التي تفيض في ذاكرة التاريخ، كأنه يقول إن الإنسان يعيش في اغتراب يصنعه بنفسه عبر هذا التقدم المخيف في التقنية، وإن الكتابة عن القديم هي فعل يتوجه نحو تحرر الإنسان من فكرة اغترابه التي تعتقله تماماً وتُجهض إبداعاته وتكبل مخيلته. وعبر عوالمه القصصية يتصدى جبران للآخر، الذي يريد أن يفرض هيمنته الثقافية، هذا الآخر ربما هو الغرب بكل سطوته الفكرية. ويقبل جبران على هذه المهمة عبر تكنيك سردي، يعتمد فيه على تقطيع الفقرات والجمل، لخلق ما يعرف بالتوتر النصي بصورة تعكس التشظي الوجداني والنفسي الذي يعيشه المثقف. والمتجول في عوالم «ميادير»، و«نافورة الشظايا»، يكتشف تلك الإحالات والرموز شديدة الحساسية التي تحملها نصوص جبران، والتي تعبر عن الواقع الاجتماعي في تقلباته ووطأة ذلك على الإنسان.
ولئن كانت البيئة المحلية هي القوام الغالب الذي ينهض عليه سرد جبران، فإن الرجل لم ينغلق على الفضاء المحلي على الرغم من هذا الالتصاق الكبير بالتربة الوطنية، فقد تناول الهموم القومية وعلى رأسها القضية الفلسطينية التي أطل عبرها على مسألة التحرر والفكر القومي والخصوصية الوطنية والعربية، ونجد ذلك الأمر واضحاً في تناوله لمسألة العمالة الأجنبية، وكيفية التعايش معها في معادلة لا تخدش الهوية الوطنية والثقافية، فكان جبران واحداً من الأدباء الذين اشتغلوا على هذه القضية بشكل خاص في مشروعه السردي.
لقد نهض جبران بالسرد إلى جانب رفاقه من الرواد، بعد أن كانت القصة القصيرة والرواية وغيرها من الأجناس السردية تعيش على هامش ضيق في ظل هيمنة الشعر الذي كانت له المرتبة والمكانة العليا؛ بل إن معظم التجارب السردية في محاولاتها الأولى جاءت من شعراء في الأصل، بينهم كاتبنا جبران نفسه، لكن هؤلاء الكتاب عمقوا من تجاربهم وكثفوا من منتجهم السردي حتى فرضوا واقعاً جديداً استطاع عبره السرد أن يقف في موقع قريب من الشعر، وبالطبع كان لجيل الرواد الفضل في تأسيس هذه المكانة، ومن أبرز هؤلاء جبران صاحب الأسلوب المختلف والعميق.

سيح المهب

بخلفية الشاعر المتمكن، والقاص البارع، دخل جبران إلى حقل سردي آخر عندما أقدم على تجربة الرواية عام 2007، عبر عمله المعنون ب«سيح المهب»، وهو النص الذي يبحر في المواضيع ذاتها التي حملتها تجربته القصصية والشعرية، فقد تناولت الرواية التحولات الاجتماعية العميقة، كما أطل بشكل خاص على عالم العمالة الأجنبية وتأثيرها في النسيج الاجتماعي، وشكلت الرواية إلى جانب تجارب روائية ناضجة لعدد من الكتاب الإماراتيين مشهداً جديداً ومتعدداً أضاف كثيراً للمشهد السردي الإماراتي.
في البدء كان الشعر، وجبران الشاعر هو فارس النظم الذي ذهب بنصه إلى أقصى حدود الإبداع، فاستطاع عبر مخيلة جامحة أن يرسم مشهديات جمالية مستمدة من الواقع والبيئة والتراث، لينسج من خلال كل تلك التفاصيل مشروعاً أسهم في صياغة صرح أدبي إماراتي اللون والرائحة، فنجد في نصوصه الشعرية سهولاً تركض فيها الخيل، ونسمع فيها هسيس الصحراء، ويمرح فيها البحر برياحه الدافقة وأعماقه التي حملت أسرار الحضارة، فكل تلك رموز تحضر بقوة في مشهديات جبران الشعرية، وهي رموز تحيل إلى الماضي وتشير في الوقت نفسه إلى مستقبل يتكئ على حضارة ضاربة في القدم.

قصص بلا توقيع

في عام 2017، وقبل يوم واحد من حفل توقيعه لمجموعته القصصية (شمس الضفاف البعيدة)، الصادر عن دائرة الثقافة في الشارقة، والذي كان من المفترض أن يحتضنه معرض الشارقة الدولي للكتاب، رحل كاتبنا الكبير جبران، دون أن يوقع تلك المجموعة السردية الأخيرة، لكنها سكنت قلوب محبيه وقرائه وعشاق فنه الراقي الرفيع، وشكلت رصيداً إضافياً للمشروع السردي الإماراتي.

إضاءة

ولد جبران عام 1953 في عجمان، ودرس في مدارسها، حصل على الليسانس في العلوم البريدية، وشغل منصب المفتش العام للهيئة العامة للبريد في الإمارات. كان عضواً مؤسساً لاتحاد الكتّاب والأدباء في الإمارات، وعضواً في مجلس إدارة الاتحاد وأمين سرِّه لعدة دورات حتى عام 1992، ونائباً للأمين العام، وعضواً في مجلس الأمناء لمؤسسة سلطان العويس الثقافية، وحصل في عام 1994 على درع اتحاد كتاب وأدباء الإمارات، بمناسبة مرور عشر سنوات على تأسيسه.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"