عادي
أفق

الإبداع والاكتئاب

03:05 صباحا
قراءة دقيقتين

ثمة تلازم غريب بين الإبداع والاكتئاب، وعلاقة شبه حتمية بين المفهومين، فالأول كثيراً ما يكون سبباً، في بعض الحالات لبروز أعراض الثاني حسب الدراسات النفسية، وذلك بسبب الجهد الكبير الذي يبذله المبدع، والطاقة التي يحرقها، والعزلة التي يعيش فيها أثناء إنتاجه .

وبما أن الإبداع ينطوي في ذاته على معنى الخلق والابتكار بجهد وجدّ، فإن ذلك يتطلب من المبدع، في أغلب أحواله، الانطواء والانزواء عن الناس، في ركنه القصي، بهدف التفرغ لإبداعه وإمعان النظر في إنتاجه .

هذه الحالة كثيراً ما تسبب نوعاً من الاحتراق بفعل قوة التركيز والتأمل والتفكير ما يجعل المبدع، في لحظة من اللحظات، في حالة اتقاد وقدرة فائقة على العطاء والإنتاج، لكنها ما تلبث أن تخمد، ويصاب المبدع بالانطفاء التام نتيجة للطاقة التي أحرقها أثناء توهجه .

التشابه بين الإبداع والاكتئاب هو نتاج الحالة الإبداعية التي تفرض على المبدع الانعزال عن العالم الخارجي والانكفاء على ذاته وعالمه الداخلي، والاستغراق في الحالة التأملية التي يهيم فيها باحثاً عن أفكار وصور ينسجها ضمن نتاجه، كما تفرض طبيعته الحساسة عليه نوعاً من الوعي والتركيز والتدقيق تجعله يفقد طاقة مضاعفة ينتج عنها، الكثير من الإعياء والإجهاد والتعب، وتضعه قاب قوسين أو أدنى من الاكتئاب الذي تبدأ أعراضه في الظهور تباعاً عليه .

ثمة الكثير من المبدعين الذين يجدون أنفسهم في لحظة من اللحظات غير قادرين على الإنتاج والعطاء بما يتناسب وتطلعاتهم، قابعين في يأس واكتئاب مريع، بل يتحول ذلك إلى حالة مزمنة وخطرة تجعل صاحبها يتعاطى الأدوية لكي يتخلص من وطأة حالة الاكتئاب تلك .

وهناك مبدعون كُثر على مستوى العالم عانوا من حالات متفاوتة من الاكتئاب من بينهم فان غوخ، وسلفادور دالي، وغيرهما .

الموضوع لا يتوقف على الإصابة بالاكتئاب كحالة مرضية مزمنة أو عابرة، بل ما يشي به ذلك، أو يحيل إليه من علاقة مع الإبداع، وهي علاقة لم تعد مثار نقاش أو جدال، لأنها أصبحت واضحة للعيان .

هنا يمكن أن نفهم ما صدّر به الروائي العالمي باولو كويلهو روايته الأخيرة ألف، فعلى الرغم من طول باعه، واشتداد عوده، وقوة مراسه وخبرته وشهرته التي طافت العالم، إلا أنه لم يجد بداً عن التعبير عمّا خالجه وألمه في نفسه، مصوراً حاله عندما عزم على كتابة روايته تلك، فلم يجد من الأفكار ما يسعفه في بلورتها، ورصّ جملها ومعانيها، فكانت حالته أشبه بنوع من الاحتراق الذهني، وهي حالة شبيهة من الناحية النفسية بعرض من أعراض الاكتئاب التي تعتري المبدع، أي مبدع، فينضب فيها فكره، ويجف قلمه، ويخرس لسانه عن التعبير .

حالة كويلهو تلامس واقع الكثير من المبدعين الآن، وتنطبق عليهم أيما انطباق، وكثيراً ما ينساق المبدع على إثرها خلف متاهات الوهم الذي يعبث به، فيصوره مريضاً حقيقياً يفتقر إلى علاج يشفي علّته، لكن كويلهو تجاوز حالته بكثير من التماسك والجدّ فأثمر روايته الشهيرة ألف التي نسج خيوطها على غرار روايته الأشهر الخيميائي .

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"