عادي
«ميديابارت» الفرنسية تفتح ملف الحركة الاحتجاجية ودورها في التغيير المحتمل

ظاهرة اجتماعية عفوية جديدة أم حالة سياسية غاضبة؟

04:57 صباحا
قراءة 5 دقائق

محمد هاني عطوي

تعكف نخبة من علماء الاجتماع على دراسة ظاهرة السترات الصفراء التي انطلقت في باريس منذ عدة أسابيع، للخروج ببعض الدروس المستفادة منها كتجربة اجتماعية لاسيما بعد أن عملوا على أشكال مختلفة من العنف الاجتماعي والسياسي وما واجهها من استراتيجيات أمنية متخذة ضد القائمين على هذه التظاهرات، من قبل السلطات العامة.

من هؤلاء الباحثين أستاذ علم اجتماع لورون موكيلي، مدير الأبحاث في المركز الوطني للبحوث العلمية (CNRS) في مختبر البحر الأبيض المتوسط لعلم الاجتماع، الذي درس الظاهرة وخرج ببعض التحليلات، «منها أن مشهد العنف ليس تشخيصاً بحد ذاته للظاهرة؛ بل هو حالة أخلاقية غير جيدة تنتج عنها آثار تمنعنا من التفكير السليم، وتجعل بعض التحليلات غير سليمة ودون فائدة».

ويرى موكيلي أننا جميعاً قادرون على القيام بنفس التصرف في ظروف معينة، وأن التظاهرات الحاشدة التي انطلقت في باريس وانضمت إليها مجموعات صغيرة من «البلطجية» من أجل منفعة ما، كملء الجيوب (السلب والنهب)، مستفيدة من الفوضى هي مسألة مبتذلة؛ لأنها تحدث دائماً تقريباً (وقانون مكافحة التكسير يعود إلى عام 1970).

وفي ظروف حاسمة مثل هذه، يمكن لمتظاهر ما (رب أسرة جيد) مثلاً أن يوصف بأنه ارتكب جرماً لإلقائه حجراً على شرطة مكافحة الشغب، علماً بأنه لم يأتِ للتكسير والسلب، وربما هي المرة الأولى في حياته التي يقوم فيها بالتظاهر أصلاً، ومن هنا تأتي أهمية استراتيجيات الشرطة المتبعة في حفظ النظام وتهدئة العنف، والتفريق بين المتظاهر الجيد والسيئ.

ويشير موكيلي إلى أن تركيز الخطاب السياسي والصحفي (مع بعض الاستثناءات البارزة) على «العنف»، يعتبر عقبة أمام تحليل الوضع الراهن بموضوعية؛ لأنه طريقة لنزع الشرعية عن المتظاهرين على مستوى العالم، وهذا أمر رأيناه في مناسبات كثيرة في الماضي مع أعمال الشغب التي كانت تنطلق في الضواحي، لكن الفارق الرئيسي هنا، هو أن مثيري الشغب جاؤوا لتحدي السلطة في الأحياء الجميلة في العاصمة الفرنسية، بدلاً من التدمير الذاتي في أماكن سكنهم.

جدية الحدث ومكانته

ويعتقد موكيلي أن نجاح حركة السترات الصفراء، لا يمكن إلا أن يثير مشاعر الحسد في عالم المنافسة السياسية والانتخابية، وكل محاولات استثمار هذا الغضب العفوي الذي يتم التعبير عنه واضحاً للعيان، ربما تثير الاشمئزاز؛ لأنها محاولات ترمي إلى الانتعاش السياسي من أجل تشويه سمعة هذه الحركة التي انطلقت بسبب ارتفاع أسعار الوقود وغلاء المعيشة بشكل عام. وقد أسهمت الشبكات الاجتماعية من قبل أناس لم يتفاعلوا في أي وقت من الأوقات، باسم أي حركة سياسية أو حتى أيديولوجية، في انتشار هذه الظاهرة. من هنا ينبغي التخلي عن الخطابات القائلة إن حركة «السترات الصفراء» تم اختراقها من قبل اليمين المتطرف (أو من اليسار المتطرف). ويرى موكيلي أن هذه الحركة هي ببساطة حركة شعبية روادها من الطبقة العاملة والطبقة الوسطى البسيطة، التي تشكل أغلبية السكان، ولو أن بعض المشاركين في هذه التظاهرات قد صوتوا لمارين لوبان (اليمين المتطرف) أو جان لوك ميلينشون (اليسار) في الانتخابات الرئاسية الأخيرة، فهذا أمر عرضي؛ لأن كثيرين منهم امتنعوا عن التصويت لأي مرشح.

ولنتذكر أن الامتناع عن التصويت في الجولة الثانية في عام 2017، بلغ في المتوسط 25%، وهو أمر لم يسبق له مثيل في ظل الجمهورية الخامسة، فضلاً عن أن نسبة الأوراق البيضاء أو الفارغة بلغت 32% بين العمال، و34% عند الأشخاص الذين يكسبون أقل من 1250 يورو شهرياً، و35% لدى العاطلين عن العمل.

ويضيف موكيلي أن الإفراط في تسييس هذه الظاهرة أو حتى عدم تسييسها، هو نوع من الازدراء الموجه من بعض المعلقين الذين يرون أن أصحاب «السترات الصفراء» لا يمتلكون أي وعي سياسي.

ومثل هذه الأحكام يستخف بأهمية التغيرات التي تحدث في الحياة اليومية للمواطنين الذين يعتبرون أن للسيارة أهمية كبيرة، سواء للذهاب إلى للعمل أو التنزه مع العائلة في عطلة نهاية الأسبوع. من ناحية أخرى، تسهم هذه الأحكام في الاستخفاف بالهدف السياسي الذي دفع هؤلاء المواطنين إلى التظاهر، خاصة أن كثيرين منهم لا يمتلكون الفصاحة اللغوية أو الثقة اللازمة بالنفس للتعبير أمام كاميرا تلفزيونية، أو التحدث في اجتماع عام. وتشير استطلاعات الرأي في هذا الخصوص، إلى أن حالة التنافسية الانتخابية تترك انطباعاً لدى أغلبية هؤلاء المواطنين، بأن السياسيين يسخرون منهم.

الجدير بالملاحظة أن كون المعلقين الذين يخوضون في هذه المسألة جلهم تقريباً من الباريسيين، هو ما يجب التوقف عنده؛ لأن هؤلاء يبالغون في التقليل من أهمية الدور العام للسيارة وميزانيتها في حياة المتظاهرين، كما يبدون استخفافهم بالدعم الذي يحصل عليه أصحاب السترات الصفراء من السكان، على الرغم من أن الاستطلاعات تشير إلى أن التأييد الواسع جداً الذي يتمتع به أصحاب السترات الصفراء من قبل مستخدمي السيارات، دليل ملموس يشاهد من خلال بعض الوسائل التي يستخدمها هؤلاء كالتزمير، أو وجود سترة صفراء وراء الزجاج الأمامي للسيارة، أو من خلال التلويح باليد.

هذا التأييد يلعب دوراً مهماً جداً في إضفاء نوع من الشرعية الأخلاقية على الأشخاص الذين ينزلون إلى الشوارع.

ويعتقد موكيلي أن غضب أصحاب السترات الصفراء، ينبغي أن يؤخذ على محمل الجد؛ لأنها حركة تندرج ضمن عملية تغيير اقتصادي (تراجع أو ركود القوة الشرائية)، واجتماعي (تنامي مشاعر عدم المساواة، ومشاكل الإسكان، والوصول إلى الجامعة، واختفاء الخدمات المحلية العامة..)، ومحلي (تهميش حقيقي أو متصور للسكان القاطنين في أطراف المدن، وشبه الحضريين والريفيين)، وسياسي (قلة الثقة بالنخب السياسية والصحفية).

في هذه الظروف يبدو أن الأحزاب السياسية الرئيسية من اليسار واليمين، ومعها بعض النقابات والجمعيات، باتت تشعر أن ثمة هوة كبيرة بين السلطة السياسية ونخبتها الباريسية الصغيرة من التكنوقراط، وأصحاب الإيرادات الكبيرة في العالم الاقتصادي والمالي، وبين «قاعدة شعبية» تجد نفسها أكثر من أي وقت مضى، من دون وسطاء ومن دون هيئات وسيطة تقربها من هذه السلطة السياسية.

الغضب لا يواجه بالغضب

في سياق كهذا، من المفترض أن تكون هناك محاولة لتهدئة الغضب بدلاً من مواجهته بعنف أكبر، كما أنه من المستحسن للسلطة السياسية إعطاء قوات حفظ الأمن تعليمات بضبط النفس، واتباع استراتيجية نزع التصعيد.

والحقيقة أن ثمة تناقضاً لافتاً للنظر بين سلوك العنف المتبع من قوات حفظ الأمن والنظام، والتراخي النسبي لقوات الشرطة والدرك، وبين ماذا حدث خلال أسبوعين متتاليين في باريس على دوارات المدن والقرى.

فالوضع بالنسبة لقوات حفظ النظام يبدو معقداً، وربما يكمن في قلة المعلومات الواردة إليها لإدارة مجموعات صغيرة لا يمكن التنبؤ بتصرفاتها، فضلاً عن ضرورة تدخلها في مناطق تقع غربي مدينة باريس، ليست على دراية كاملة بها. وتخشى قوات حفظ النظام من تسلل «البلطجية» لصب الزيت على النار، وهنا ينبغي أن نتساءل هل الجواب على ذلك يتمثل في إطلاق النار؟.

أخيراً، يعتقد موكيلي أن السلطة السياسية يجب ألا تنتظر تدهور الوضع أكثر من ذلك، ويجب أن تظهر حسن نية بإعطاء الحق لأصحاب «السترات الصفراء» بخصوص مطالبهم الفورية؛ لأن عدم وجود محاورين لا يمكن أن يكون عذراً، وتنبغي إدارة هذه الأزمة من خلال إعادة النظر في كل ما يتعلق بالسياسة الضريبية والاقتصادية والاجتماعية في فرنسا.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"