عادي
كتب السهل الممتنع لجميع المستويات الثقافية

ابن المقفع.. الحكمة على لسان الحيوان

01:09 صباحا
قراءة 6 دقائق
إعداد: محمد إسماعيل زاهر

قال طه حسين يوما في كتابه «من حديث الشعر والنثر» عن عبد الله بن المقفع وصديقه عبد الحميد الكاتب: «وإنما يقرؤهما منا ذوو الثقافة العالية والساذجة والمتوسطة والبسيطة، وكلنا يجد لذة ومتعة فنية»، ولعل طه حسين بمقولته تلك يحيلنا إلى عدة دلالات، منها ذلك السحر وتلك المتعة التي نحصلهما بمطالعة أعمال الكاتبين اللذين أشار إليهما، فمن منا لم يقرأ لابن المقفع على وجه الخصوص أو يسمع به على الأقل، أو يصادفه في مرحلة تعليمية، أو أنصت إلى قصة أو حكاية له في يوم من الأيام، وهناك مرة أخرى ذلك التقريب المحبب للتراث ومحاولة إدخاله إلى ثقافة وذائقة العصر، ونلاحظ مرة ثالثة الإشارة اللافتة إلى تلك الأعمال التي تناسب كافة المستويات الثقافية، ومرة رابعة التنبيه على قيمة الصداقة التي كانت تجمع بين الأدباء والتي خصها ابن المقفع بأكثر من مقال في كتبه المتعددة.

في حضرة ابن المقفع نجد من يصفه برأس الكتّاب، وسيد البلاغة، والتي عرفها هو نفسه بالقول: «البلاغة هي التي إذا سمعها الجاهل ظن أنه يُحسن مثلها»، ويخصص له أحمد أمين جزءا مهما في كتابه «ضحى الإسلام»، ويعدد أسماء المستشرقين الذين بحثوا كتابه الأشهر «كليلة ودمنة»، ثم يقول: «فلو استقصينا ما قالوا، وعمدنا إلى مناقشة آرائهم لاحتاج ذلك إلى كتاب بأكمله».

ولد أبو محمد عبد الله بن المقفع في عام 106 ه، في قرية «جور» الفارسية، ونشأ في البصرة في ولاء «آل الأهتم» وهم معرفون بالبلاغة والفصاحة، وخالط الأعراب وأخذ عنهم، وتوفي مقتولاً في عام 142 ه، أي أنه عاش لمدة قصيرة، ولكنه أنتج العديد من الكتب التي بقيت حتى يومنا، ولم يقض من حياته في العصر العباسي إلا نحو عشر سنوات على خلاف تصور الكثير منا أنه نشأ وأبدع في هذا العصر الزاخر، وهو الأمر الذي يبرر ورود اسمه ومنجزه في كثير من مؤلفات أعلام العصر العباسي الذين كتبوا عنه معجبين ببلاغته، مؤرخين لحياته ومحنته، ولم تكن ثقافة ابن المقفع أو بساطته وتأنقه في الكتابة هما مصدر إعجاب الجميع وحسب، ولكن صفاته الشخصية كذلك، حيث يروي أنه دخل مع عبد الحميد الكاتب ليُقتل معه، فسألهما المنوط به تنفيذ الحكم: أيكما عبد الحميد، فرد كل واحد منهما «أنا».
ترك ابن المقفع الكثير من الأعمال المؤثرة والتي تعتبر علامات في التراث العربي، ومنها: «الأدب الصغير» و«الأدب الكبير» و«رسالة الصحابة» و«كليلة ودمنة»، وتصادفه في أعمال الجاحظ وابن قتيبة وابن النديم والذهبي والمسعودي.. وغيرهم، ومن المعاصرين فضلا عن طه حسين وأحمد أمين هناك عبد الوهاب عزام وشوقي ضيف، وإبراهيم اليازجي..الخ واهتم دي ساسي وبروكلمان ونولدكه ورايت من المستشرقين بكليلة ودمنة، وظل هذا الكتاب الأخير على الرغم من شهرته بين الأدباء نخبوياً حتى قام المستشرق الفرنسي دي ساسي بنشره في باريس عام 1816، الأمر الذي أسهم في انتشاره في العالم، ويرصد محمد فتحي أبوبكر سيرة طبعات الكتاب الحديثة مؤكداً محاولات الناشرين خلال العصر الحديث على إخراج هذا الكتاب في أجمل حلة ممكنة ولكافة الأعمار والمستويات، حيث طُبع مزينا باللوحات والصور الجميلة للأطفال، فضلاً عن أن وزارة المعارف المصرية قررته كتاباً مدرسياً خلال إحدى الفترات.
يتمثل الأثر الأكبر لكتاب ابن المقفع «كليلة ودمنة» في إدخاله القص على ألسنة الحيوانات إلى الأدب العربي، بكل فضاءاته التي لا تبدأ من الإمتاع ولا تنتهي بالترميز والرغبة في قول أشياء معينة ربما لا يستطيع الكاتب قولها مباشرة أو التعبير عنها صراحة على لسانه، يقول أحمد أمين: «وحذا حذوه كتّاب كثيرون» ثم يعددهم في ابن الهبارية صاحب كتاب «الصادح والباغم»، و ابن ظفر مؤلف «سلوان المطاع في عُدوان الطباع»، وابن عربشاه في «فاكهة الخلفاء ومناظرة الظرفاء»، وحتى المعري الذي يقال إنه ألّف كتاباً بعنوان «القائف» على مثال «كليلة ودمنة» في ستين كراسة ولم يتمّه، وهناك كذلك المناظرة بين الإنسان والحيوان في رسائل إخوان الصفا، ومنطق الطير لفريد الدين العطار..الخ. يعود كتاب «كليلة ودمنة» إلى أصول هندية، ونُقل أيام كسرى أنو شروان إلى الفارسية، وترجمه ابن المقفع إلى العربية، وفي كل مرة كانت هناك إضافات كما يذهب أكثر الباحثين، حتى أصبح في النهاية كما يقول إبراهيم اليازجي «خلاصة الحكمة المشرقية»، وسُمي على اسم أخوين من بنات آوى: كليلة ودمنة، من باب تسمية الكل باسم الجزء، حيث لا يرد ذكرهما في الكتاب إلا في بابين وهما «باب الأسد والثور»، وباب «الفحص عن أمر دمنة»، فضلاً عن أبواب الكتاب الأخرى ومنها: «الحمامة المطوقة»، «البوم والغربان»، «القرد والغيلم»، «الناسك وابن عرس»، «الجرذ والسنور»..الخ، وتبدأ طبعات من الكتاب بأبواب مقدمة الكتاب لعلي بن الشاه الفارسي بهنود بن سحوان يذكر فيها الأسباب التي دفعت الفيلسوف الهندي بيدبا لوضع الكتاب للملك دبشليم، ويذهب البعض إلى أن ابن سحوان هذا هو ابن المقفع نفسه، ثم باب بعثة الملك أنو شروان لبرزويه الطبيب إلى بلاد الهند لطلب الكتاب، ثم باب يمهد فيه ابن المقفع للكتاب.
وبرغم أن الكتاب على صغر حجمه موسوعة نصادف فيها شتى ضروب الحكمة، ويقرأ أيضا لوسائل تربوية وكذلك للتسلية، إلا أن ابن المقفع في المقدمة يأخذ بيدنا إلى الغاية التي من أجلها ترجم هذا الكتاب، يقول: وينبغي لمن قرأ هذا الكتاب أن يعرف الوجوه التي وضعت له، وإلى أي غاية جرى فيه مؤلفه عندما نسبه إلى البهائم، وأضافه إلى غير مُفصح، وغير ذلك من الأوضاع التي جعلها أمثالا، فإن قارئه متى لم يفعل ذلك لم يدر ما أريد بتلك المعاني، ولا أي ثمرة يُجتنى منها، ولا أي نتيجة تحصل له من مقدمات ما تضمنه هذا الكتاب. وأنه، وإن كانت غايته استتمام قراءته إلى آخره دون معرفة ما يقرأ منه، لم يعد عليه بشيء يرجى نفعه».
ويؤكد ابن المقفع على تدرج أسلوب الكتاب من البساطة التي تناسب الجميع، إلى الحكمة الكامنة خلف الكلمات و«التزاويق الظاهرة»، وربما تصادف في الكتاب مقولة هنا أو هناك تستوقفك وتدفعك إلى التفكير في مراميها وغاياتها، والهدف هو الخير والسعادة واقتران العلم بالعمل، أي غايات تربوية وأخلاقية، ولنستمع إلى الكتاب في باب «الأسد والثور: وقد قيل لا خير في القول إلا مع العمل، ولا في الفقه إلا مع الورع، ولا في الصدقة إلا مع النية، ولا في المال إلا مع الجود، ولا في الصدق إلا مع الوفاء، ولا في الحياة إلا مع الصحة، ولا في الأمن إلا مع السرور»، ويكتب تحت عنوان «مثل البصير والأعمى»: «أقل الناس عُذرا في اجتناب محمود الفعال وارتكاب مذمومها من اثنين أحدهما بصير والآخر أعمى ساقهما الأجل إلى حفرة فوقعا فيها، كانا إذا صارا إلى قاعها بمنزلة واحدة، غير أن البصير أقل عذرا عند الناس من الضرير، إذ كانت له عينان يبصر بهما، وذاك بما صار إليه جاهل غير عارف»، وبخلاف ذلك هناك أيضا الطابع السياسي الواضح للكتاب المهيمن على خلاصة بعض الحكايات و الرموز الكامنة وراء الشخصيات وأقوالها ومواقفها.
} آفاق أخرى
ولابن المقفع كذلك «رسالة الصحابة»، ويعني بهم صحابة الولاة والخلفاء، وهم من يقربهم الحكام ويجعلونهم موضع السر منهم، ويستشيرونهم في أمورهم، وللرسالة قيمة كبرى في إصلاح نظام الحكم في عصر ابن المقفع، ووجهها كاتبنا إلى أمير المؤمنين ولم يسمّه، والظاهر انه أبو جعفر المنصور لأنه يذكر دولة بني العباس وقد استقرت، ثم يفصل في الخطوات التي على أمير المؤمنين اتباعها لتحسين أوضاع دولته، وفيها يتنقل ابن المقفع بين مختلف أقطار الدولة راصداً أوضاعها، الأمر الذي يدل على معرفة واسعة بكل ما يمت إلى فضاء عصره.

وقدم ابن المقفع في كتاب «الأدب الصغير» دروسا أخلاقية ترغب القارئ في العلم، وتدعو المرء إلى تهذيب نفسه، وترويضها على الأعمال الصالحة، وتوصي بالصديق، يقول في مقدمة الكتاب: «وللعقول سجيات، طبائع، وغرائز تقبل الأدب. وبالأدب تنمى العقول وتزكو، فكما أن الحبة المدفونة في الأرض، لا تقدر أن تخلع يبسها، وتُظهر قوتها، وتطلع فوق الأرض بزهرتها وريعها، ونضرتها ونمائها، إلا بمعونة الماء الذي يغور إليها في مستودعها، فيذهب عنها أذى اليبس والموت، ويحدث لها بإذن الله القوة والحياة، فكذلك سليقة العقل مكنونة في مغرزها من القلب لا قوة لها ولا حياة بها ولا منفعة عندها حتى يعتملها الأدب الذي هو ثمارها وحياتها ولقاحها».

ويخصص صاحب «كليلة ودمنة» النصف الثاني من كتابه «الأدب الكبير» لقيمة الصداقة، ويفتتح كلامه في هذا الموضوع بمقولة مؤثرة «أبذل لصديقك دمك ومالك، ولمعرفتك رفدك ومحضرك، وللعامة تحننك، ولعدوك عدلك وإنصافك، واضنن بدينك وعرضك على كل أحد».
في حضرة ابن المقفع تتعدد فضاءات المعرفة، وتتعدد أيضاً الأسباب التي تدفعنا إلى أن ننهل من ذلك الفكر العذب، الذي ينتمي إلى السهل الممتنع، نستمتع ونعمل الفكر في الوقت نفسه، نقرأ ونمارس التأويل، نضع الحكايات والأمثال والحكم كثيراً إلى جانبنا ثم نتأمل في أكثر من وجه للمعنى الذي أراد ابن المقفع أن يلفت انتباهنا إليه، وتبقى ريادته في نقل حكمة الهند وتأثيره في كل من جاء بعده متخذاً من الحكمة على لسان الحيوان مدخلاً للتربية والإصلاح سردية تحتاج إلى مزيد من الجهد والدراسة.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"