عادي

جون لوك.. العقل قناص الحقيقة

02:56 صباحا
قراءة 3 دقائق
القاهرة: «الخليج»

ولد الفيلسوف جون لوك، في نهاية عصر الإصلاح الديني، وهو أبو التنوير في بدايته، كما أنه مولود في زمن تجديد البحوث الأرسطية، ومات والجامعات تحاول فهم كتاب «المبادئ» لنيوتن، كما أنه مولود في زمن تدهورت فيه إنجلترا، ومات عندما أصبحت قوة عظمى، وقد أدى لوك دوراً بارزاً في كل هذه النقلات الفكرية في مواجهة خصمه «روبرت فيلمر» ونشر كتاباً بعنوان «رسالتان في الحكم»، رداً على ما يذهب إليه «فيلمر»، الفكرة المحورية فيه أن المجتمع من صنع الإنسان، أو من صنع العقل.
في هذا السياق تناولت «كرستين عماد» في كتابها «مفهوم الحقيقة والتسامح عند جون لوك» مفهومين أساسيين: الحقيقة والتسامح، انطلاقاً من مفهوم العقل، فالحقيقة التي يقتنصها العقل حقيقة نسبية وليست مطلقة، ومع النسبية في الرأي يكون التسامح، أما مع المطلقية فيكون التعصب، وفي هذا السياق أيضاً جاءت خاتمة الكتاب على غير المألوف، فالمؤلفة تستعين فيما انتهت إليه لمواجهة قضية العصر، وهي «الأصوليات الدينية» التي تجرنا إلى رجعية، لا تتفق مع جوهر الدين.
تقول المؤلفة: «دفعني إلى الاهتمام بفلسفة «جون لوك» عدة أسباب، منها: أنه كان ممهداً لعصر التنوير، إذ إنه عبر عن العقل المعاصر أكثر من تعبيره عن عقل القرن السابع عشر في أوروبا، ودعا إلى حق الفرد في تأويل الدين بعيداً عن أهل الحمية، وبذلك تنتفي المعتقدات الزائفة، وطالب بحقوق الإنسان، ودافع عن حرية الإنسان الطبيعية ضد طغيان الكنيسة، وحقه في البحث عن الحقيقة، وأن يفكر بنفسه، لأنه لا أحد يستطيع أن يقدم له الحقيقة».
قديماً قال أرسطو: إن الفلسفة وليدة الدهشة، ومعنى هذا القول إنك لا تتفلسف إلا إذا أصابتك الدهشة، لأن الدهشة تشير إلى تناقض في وضع قائم وإزالته لأزمة من أجل تجسيد وضع قائم، وهذه الإزالة يقوم بها العقل، والإزالة على ضربين: إما إزالة بهدف إقصاء أحد الطرفين المتناقضين، وإما برفع التناقض إلى تناقض أعلى، وأول تناقض اندهش له الفيلسوف هو مفهوم الحقيقة، حدثت هذه الدهشة في القرن الخامس قبل الميلاد مع فيلسوف يوناني اسمه «بروتاجوراس» تساءل: ما الحقيقة؟ والذي دفعه لهذا التساؤل هو اندهاشه من تغير الحقيقة، لأن تغيرها يعني أنها لم تعد حقيقة، الأمر الذي من شأنه إحداث بلبلة ذهنية تفضي إلى تدمير سكينة النفس، وكان دليله على تغير الحقيقة أن هواء بعينه يرتعش منه الواحد ولا يرتعش منه الآخر، فماذا عسى أن يكون الهواء في ذاته؟ هل نقول إنه بارد أم إنه ليس بارداً؟ وقد أكثر بروتاجوراس من هذه الأدلة إلى الحد الذي أنكر فيه الحقيقة، فاتهم بالإلحاد، وأحرقت كتبه وحكم عليه بالإعدام، ففر هارباً، لكنه مات غرقاً في أثناء هروبه.
وفي القرن السادس عشر، أيّد جاليليو النظرية القائلة بدوران الأرض، أي بعدم ثباتها، فحوكم دينياً، وكانت الدهشة الكبرى عندما أعلن علماء الفيزياء مع بداية القرن العشرين أن الذرة يمكن أن تتجزأ بعد أن كان الاعتقاد السائد لأكثر من ألفي عام أن الذرة هي الجزء الذي لا يتجزأ، ومن ثم انزعج علماء الفيزياء الكلاسيكيون، وهددوا بعدم نشر أبحاثهم العلمية في المجلات، التي تؤيد تجزئة الذرة، ومع تطور علم الفيزياء الذرية ازدادت الدهشة ومعها ازداد التناقض فأثار الفلاسفة السؤال: ما الحقيقة؟ ومع ثورة المعلومات وانفجار المعرفة توارت الحقيقة، إذ لم تعد وظيفة العقل البحث عن الحقيقة بل البحث عن المعرفة.
يدور هذا الكتاب حول مفهوم الحقيقة والتسامح عند جون لوك، وإشكالية الحقيقة مردودة إلى نظرية المعرفة، وبما إن نظرية المعرفة مرتبطة بالحقيقة، تساءل لوك عن مدى مشروعية هذه العلاقة بين المعرفة والحقيقة، وقد اختلفت نقطة انطلاق الفلسفة في كل عصر من العصور في بحثها عن «الحقيقة»، ما أدى إلى تعدد وجهات النظر حول هذه الإشكالية، فقد كانت الحقيقة في العصر اليوناني تعنى بحقيقة الوجود، وفي العصر الوسيط كانت تعنى بحقيقة الدين، أما في العصر الحديث فتعنى بحقيقة العلم، وتأسيساً على ذلك ثمة ثلاث نظريات للحقيقة جاهزة تاريخياً.
هل في إمكاننا الوصول إلى الحقيقة؟ يجيب لوك في خطاب أرسله إلى أحد أصدقائه: «إنني على قناعة بوجود حقيقة، وهي أمرٌ ربما يمكن للإنسان الوصول إليه، وإنها تستحق السعي وراءها، وهي ليست أثمن شيء في العالم فحسب، وإنما هي أيضاً أكثر الأشياء بهجة»، وعند الوصول إليها سوف تخبر الإنسان بكل وضوح، الكيفية التي ينبغي أن يعيش وفقاً لها، كانت هذه القناعة التي وضع «لوك» ثقته فيها، وعاش حياته مدافعاً عنها، وبسببها لا يزال يقدم لنا عبر القرون القدوة في الشجاعة الفكرية الدائمة، ونحن اليوم في أمسّ الحاجة إلى هذه الشجاعة الفكرية في كل مناحي حياتنا.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"