عادي
رائد المنهج العلمي والفيزياء الحديثة

ابن الهيثم

03:03 صباحا
قراءة 8 دقائق
إعداد: محمد إسماعيل زاهر
في الأول من يوليو/ تموز من العام الماضي احتفل محرك البحث غوغل بمرور 1048 عاماً على ميلاد العالم أبو علي الحسن بن الهيثم، وتخصص اليونيسكو العام الجاري للضوء ولابن الهيثم نصيب كبير في قائمة احتفالات تلك المنظمة العالمية، وقبل ذلك أطلق اسم ابن الهيثم على إحدى الفجوات البركانية على سطح القمر، وفي عام 1997 اطلق اسمه على أحد الكويكبات المكتشفة حديثاً، وفي باكستان اطلق اسمه أيضاً على كرسي طب العيون في الجامعة، وكرمته العراق بوضع صورته على ورقة نقدية من فئة عشرة آلاف دينار، ويعتبره الكثيرون من أبرز رواد المنهج العلمي الحديث، ويذهب بعضهم إلى اعتباره المخترع الأول للكاميرا، وفي مخطوطته "تكوين العالم" معارضة واضحة وأكيدة لعلم الفلك اليوناني، وهناك مسألة رياضية شهيرة معروفة باسم "مسألة ابن الهيثم" .
إن الباحث عن الحقيقة ليس من يدرس كتابات القدماء، على حالتها ويضع ثقته فيها، بل هو من يعلق إيمانه بهم ويتساءل ما الذي جناه منهم، هو الذي يبحث عن الحجة، ولا يعتمد على أقوال إنسان طبيعته يملؤها كل أنواع النقص والقصور، وبالتالي فإن من الواجب على من يحقق في كتابات العلماء، إذا كان البحث عن الحقيقة هدفه، هو أن يستنكر جميع ما يقرأه، ويستخدم عقله حتى النخاع لبحث تلك الأفكار من كل جانب، وعليه أن يتشكك في نتائج دراسته أيضاً، حتى يتجنب الوقوع في أي تحيز أو تساهل، هكذا يعلق ابن الهيثم على نظرية اليوناني بطليموس الخاصة برؤية هذا الأخير لعلم الفلك في كتابه الأشهر "المجسطي"، ذلك الذي فتن الكثيرين في بلاد الأغريق القديمة وصولاً إلى زمن الحسن بن الهيثم، الذي جعل منه هذا التعليق وسواه على أعمال القدماء رائداً للمنهج العلمي، حيث لا حقيقة مطلقة وأبدية في العلوم الطبيعية والتطبيقية .
مثل كل العلماء العرب والمسلمين اعتمد ابن الهيثم على التجربة منطلقاً من إيمان حقيقي بأهمية الخطأ والصواب بعيداً عن التأمل والعقل النظري السائد في العصور السابقة، ومثلهم أيضاً أسهم بقوة في عدة علوم في الوقت نفسه: الرياضيات، الفلك، الهندسة، الميكانيكا، ولكن تأثيره الأبرز كان في البصريات والفيزياء وطب العيون، ومثلهم مرة ثالثة تحدث في المنطق والفلسفة، ومرة رابعة ارتبط بدرجة قليلة بفضاء عصره حيث لم يتخلص من إرث بطليموس وقال بمركزية الأرض في الكون .

أحلام المستقبل

وعلى درب علماء ذلك الزمان كانت لابن الهيثم أحلامه وطموحاته التي تخطت حدود عصره، حيث قال: "لو كنت بمصر لعملت من نيلها عملاً يحصل به النفع في كل حالة من حالاته من زيادة ونقص، فقد بلغني أنه ينحدر من موضع عال هو طرف الإقليم المصري"، تلك المقولة التي يرى البعض فيها أنها حلم لعالم عاش في القرن العاشر الميلادي لما سيعرف في القرن العشرين بخزان أسوان ثم السد العالي لاحقاً، مقولة دفعت الحاكم بأمر الله الفاطمي لاستقدام ابن الهيثم إلى مصر ليقوم بأبحاثه ودراساته لتحقيق الاستفادة المثلى من مياه نهر النيل، ولكن رحلات ابن الهيثم إلى جنوب أسوان ورؤيته للشلالات والكتل الصخرية الضخمة أوضحت له بما لا يدع مجالاً للشك أن حلمه يفوق قدرات عصره، وأخبر الحاكم بذلك وخوفاً من تقلبات الحاكم المعروفة ادعى ابن الهيثم الجنون ليعيش في سلام، وخلال تلك الفترة كتب مؤلفه الذي سيرتبط به لاحقاً وهو كتاب "المناظر" .
ولد أبو علي الحسن بن الهيثم في عام 354هجرية، 965 ميلادية، في البصرة، حيث حصل العلم الديني والتطبيقي من العديد من المصادر، اختلفت الأقاويل حول أسباب رحيله من البصرة مروراً ببغداد ثم مصر، ولكنها تشير إلى عصر من التقلبات السياسية في فترة ضعف الدولة العباسية، وهناك قصة تروى عن مغادرته لبغداد بعد أن سمع أحد خطباء المساجد يكفر المدعو ابن الهيثم على كتاب له في علم الفلك والكواكب ثم يشاهد الخطيب وبعض الجموع يحرقون الكتاب، الأمر الذي دفعه للتفكير في السفر إلى القاهرة حيث ازدهار البحث العلمي في ظل الدولة الفاطمية، وفي مصر دارت وقائع لقائه بالحاكم وإدعائه الجنون، وبعد وفاة الحاكم انكب ابن الهيثم على مؤلفاته ونسخه للكتب اليونانية البارزة حيث كان يتعيش من التأليف والنسخ، بالإضافة إلى أبحاثه العلمية والعناية بتلاميذه حتى وفاته في 430 هجرية، 1040ميلادية، عن عمر يناهز الرابعة والسبعين عاماً . عُرف ابن الهيثم بالبصري، ولقب في أوروبا ببطليموس الثاني وبالفيزيائي وباسم alhazen، وقلبت أفكاره ما كان سائداً في ما يتعلق بطريقة الإبصار ذاتها .

الكاميرا و"القمرة"

سادت في العصور القديمة والوسطى نظريتان تتعلقان بالإبصار، الأولى نظرية الانبعاثات وأيدها وروجها مفكرون مثل إقليدس وبطليموس ومؤادها أن الإبصار يعتمد على الضوء المنبعث من العين، أما الثانية فكانت لأرسطو وأتباعه والتي تفترض دخول الضوء إلى العين بصور ووسائل فيزيائية معقدة، عارض ابن الهيثم كل هذا، كما رفض أن العين قد تجرح إذا نظرنا إلى ضوء شديد السطوع، وأكد أن عملية الإبصار تحدث عندما يسقط الضوء على العين من خارجها، كما أثبت أن الضوء يسير في خطوط مستقيمة، ونفذ تجارب كثيرة حول العدسات والمرايا والانعكاس والانكسار، وتحدث عن الضوء المنكسر والمنعكس في اتجاهين أفقي ورأسي . وواصل ابن الهيثم فرضيته تلك حتى النهاية، فكان أول من قال إن القمر يعكس الضوء من تلك الأجزاء التي تسقط عليها أشعة الشمس .
وقدم ابن الهيثم وصفاً واضحاً للكاميرا المظلمة والكاميرا ذات الثقب، وبرغم حديث أرسطو وثيون السكندري والكندي والفيلسوف الصيني موزي حيث سبق لهم أن وصفوا الآثار المترتبة على مرور ضوء واحد عبر ثقب صغير إلا أنهم لم يفكروا ما هي وضعية هذا الضوء إذا أُستقبل على مرآة في الجانب الآخر من الثقب، وكان ابن الهيثم أول من نفذ هذه التجربة مع مصباح زجاجي، فنجح في نقل صورة من الخارج إلى شاشة داخلية كما في الكاميرا المظلمة التي اشتق الغرب اسمها من الكلمة العربية "قُمرة": camera التي تعني الغرفة المظلمة، وأحدثت مقارنة ابن الهيثم بين العين والكاميرا المظلمة توليفته بين علم التشريح وعلم البصريات .
تحدث ابن الهيثم بدقة في كتابه "المناظر" عن تشريح العين بما يفيد في دراساته للإبصار والضوء، وذكر ملتحمة العين والحدقة أو "العنبية"، والقرنية، والشبكية، وعصبتي الإبصار وإحساس العين بالظلمة، وشروط الإبصار الصحيح: أن يكون الجسم مقابلاً للعين ومضيئاً بذاته أو من خلال شعاع ملقى عليه وأن يكون على قدر معين من الحجم والكثافة وأن يكون على خط اتجاه البصر وعلى بعد محدد من العين، كما تناول أخطاء الإبصار بالتفصيل، وفي كل ما كتبه سنجد إيراده لآراء القدماء بالتفصيل ومناقشتها بروية وصبر وتفنيدها بمنهجية واضحة . ولأهمية كتاب "المناظر" ترجم إلى اللاتينية في نهاية القرن الثاني عشر أو بداية القرن الثالث عشر تحت عنوان "الكنز البصري" وقد ظهر أثر هذا الكتاب في أعمال روجر بيكون ويوهانز كيبلر وخاصة في ما يتعلق بالمنهج التجريبي .

الصرامة العلمية

يقول ابن الهيثم مؤكداً هذا المنهج في "المناظر": "ورأينا أن نصرف الاهتمام إلى هذا المعنى، يقصد علم الإبصار، ونٌخلص العناية به ونوقع الجد في البحث عن حقيقته، ونستأنف النظر في مقدماته ومبادئه، ونبتدىء باستقراء الموجودات وتصفح أحوال المبصرات وتمييز خواص الجزئيات ونلتقط، باستقراء، ما يخص البصر في حال الإبصار وما هو مطرد لا يتغير وظاهر لا يشتبه من كيفية الإحساس . ثم نرتقي في البحث والمقاييس على التدرج والترتيب، مع انتقاد المقدمات والتحفظ من الغلط في النتائج، ونجعل غرضنا في جميع ما نستقرئه ونتصفحه العدل لا اتباع الهوى، ونتحرى في سائر ما نميزه وننتقده طلب الحق لا الميل مع الآراء . فلعلنا بهذا الطريق إلى الحق يُثلج الصدر ونصل بالتدريج والتلطف إلى الغاية التي عندها يقع اليقين، ونظفر مع النقد والتحفظ بالحقيقة التي يزول معها الخلاف وتنحسم بها مواد الشبهات، وما نحن، مع جميع ذلك، براء مما هو في طبيعة الإنسان من كدر البشرية، ولكنّا نجتهد بقدر ما لنا من القوة الإنسانية . ومن الله نستمد المعونة في جميع الأمور" .
لعل الفقرة السابقة على طولها تظهر لنا تلك القواعد التي تحدث عنها ابن الهيثم في كل اعماله، وهي الفقرة وغيرها التي تعلي من شأن الاستقراء والتجريب في مقابل النظر والاستنباط الفكرى، التجريب الذي لا يقع في أسر رؤى الآخرين ويعترف بإمكانية الخطأ ولا نهائية الحقيقة العلمية في الوقت نفسه، وهو الأمر الذي لاحظه الكثيرون من المهتمين بالعلوم العربية من المستشرقين فوضعوا ابن الهيثم في مقدمة واضحة ضمن رواد المنهج العلمي الحديث، تقول عالمة الأعصاب روزانا غوريني: "يعتقد معظم المؤرخين أن ابن الهيثم رائد المنهج العلمي الحديث" .

مسألة ابن الهيثم

ضم المجلد الخامس من كتاب "المناظر" ما يعرف ب"مسألة ابن الهيثم"، كان بطليموس قد صاغ معضلة علمية في عام 150 ميلادية، وهي تتألف من رسم خطين من نقطتين على سطح دائرة ليجتمعا في نقطة على محيط الدائرة، ويصنعان زاويتين متساويتين مع المستوى العمودي على ذلك السطح عند تلك النقطة، وهو ما يشبه العثور على نقطة على حافة طاولة بلياردو دائرية تستهدفها الكرة الضاربة لكرة أخرى في نقطة ثانية، والتطبيق العلمي لهذه المسألة في البصريات هو إذا كان لدينا مصدر ضوء ومرآة كروية، هو كيف نحدد النقطة على المرآة التي ينعكس عليها الضوء لعين الناظر، الأمر الذي قاد ابن الهيثم ليقترب من الحل من خلال صيغة رياضية من الدرجة الرابعة، باستخدام طريقة من البرهان الرياضي، حيث توصل إلى ما عرف فيما بعد بعلم التفاضل والتكامل إلا أن المسألة لم تحل نهائياً إلا في عام 1997 على يد عالم الرياضيات بيتر نيومان في جامعة أكسفورد .
تحدث ابن الهيثم عن الزيغ البصري وقوس قزح وكثافة الغلاف الجوي وكسوف الشمس وخسوف القمر، وقدم شرحاً وافياً لمسألة "وهم القمر" حيث حاول ان يكتشف لماذا يبدو القمر في الأفق القريب أكبر منه في السماء، ودرس الانكسار في الغلاف الجوي، وله اجتهادات في نظرية الجاذبية الأرضية، وآراء في الاستاتيكا والديناميكا، وفي كتابه "نماذج حركة الكواكب السبعة" استفاض في ميكانيكا الحركة وطرح نموذج دوران الأرض حول محورها، ووضع تصوراً مبكراً لما يعرف ب"شيفرة أوكام" حيث افترض وجود بعض الخصائص التي تميز الحركات الفلكية في حدها الأدنى، وله أطروحة حول مجرة درب التبانة فرفض السائد في عصره حيث كان الاعتقاد بأن هذه المجرة تقع حول الغلاف الجوي للأرض، وربط بين الجبر والهندسة، وهو ما استفاد منه بعد ذلك ديكارت في تطوير الهندسة التحليلية، وإسحاق نيوتن في التفاضل والتكامل، وإذا بحثت عن مفهوم القصور الذاتي فلابد أن تعود إلى ابن الهيثم حيث آمن بأن الأجسام في حركة دائمة ما لم توقفها قوة خارجية أو يتغير اتجاهها، أما إذا كنت من هواة نظرية الأعداد المثالية فستجد اسهاماً فيها لابن الهيثم . . إلى آخر اكتشافات وإبداعات أخرى كثيرة، حتى أن قائمة من تأثر بابن الهيثم من العلماء العرب والغربيين تبدو عصية على الحصر .
ومثل كل العلماء العرب والمسلمين في عصره كتب ابن الهيثم في الفلسفة وعلم النفس وله دراسات في الموسيقى، ففي مخطوطة حول تأثير الأنغام على أرواح الحيوانات، كان أول من أشار إلى الأثر الإيجابي الذي تتركه الموسيقى في سلوك الحيوان . ووفقاً للمؤرخين ترك ابن الهيثم 200 كتاب منها ما لا يقل عن 96 عملاً عرُف في الغرب ومن أبرزها: "مقالة في التحليل والتركيب"، "مقالة في المكان"، "نماذج من حركات الكواكب السبعة"، "تربيع الدائرة"، "أصول المساحة"، "تكوين العالم"، "مقالة في درب التبانة"، "ارتفاعات الكواكب"، "نموذج الكون"، "حركة القمر"، "مقالة في ضوء النجوم"، "التحديد الدقيق للقطب"، "رسالة في الشفق"، "مقالة في صورة الكسوف"، "أعمدة المثلثات"، "كيفيات الإظلال"، "مقالة في قوس قزح" . . الخ .
لقد كانت أبحاث ابن الهيثم بصيرة لعالم يتخبط آنذاك في جهل العصور الوسطى المظلمة .

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"