عادي
ابن بيئة ريفية سورية انعكست في إبداعه

عبدالكريم الناعم: "العنود" الاسم الحركي لأشعاري

02:46 صباحا
قراءة 5 دقائق

حقق الشاعر السوري عبدالكريم الناعم خلال مشواره الشعري الممتد لأكثر من أربعين عاماً تجربة فنية اتسمت بالثراء والإبداع، وأصبح له صوته الجمالي المميز بين جيله، فهو واحد من شعراء ستينات القرن الماضي. ولد في ريف حماة في سوريا عام 1935 وتابع دراسته في حمص، عمل في حقل التعليم والصحافة. صدرت له 15 مجموعة شعرية من عناوينها (زهرة النار - 1965)، (حصاد الشمس - 1972)، (الكتابة على جذوع الشجر القاسي - 1974)، (عينا حبيبتي والاغتراب - 1976)، (تنويعات على وتر الجرح - 1979)، (عنود - 1981)، (من مقام النوى - 1988)، وغيرها من مجموعات شعرية لفتت بعض النقاد.

تمتلك صوتاً شعرياً له روحية خاصة.. كيف شكلت هذه الروحية الشعرية؟

- ثمة آثار وكتابات وأغنيات وتقاسيم من مقامات شتى، لا تُمحى، وتلك النقوش الرائعة ذات الألوان الباهية تركَتْها أكثر من يد على جدران ذلك المعبد، وأنا هنا أتكلم عما تجسَد في الواقع لا عما هو متخيل أو مصاغ بدوافع التوق والإبداع، هنا أرى من الضروري الإشارة إلى أن ما قد يشكل فضاء إبداعياً ليس بالضرورة مشدوداً إلى حالة ذات أبعاد زمانية مَعْيشة، إذ رُب أمسية معجونة بأحوال ذلك التوق الذي لا ينتهي، تنقش في لوح الروح، لوحِ نبضةِ الجمال مالا يُنسى، وقد تستقر في الذاكرة لحظةُ بارقة تُشعل في البعيد حرائقَ من اللطف والأنس، تلك الدفاتر التي نقلّبها، قد تحتل فيها أنثى ما هذه الفضاءات.

أسألك الآن عما يسمّونه الأنثى الأبدية، فغالباً ما يوصف الشعراء بأنهم يطاردون أنثى أبدية متخيلة في قصائدهم وكأنهم يطاردون خيط دخان على حد تعبير الشاعر الراحل نزار قباني، فهل ينطبق هذا الأمر على الشاعر عبدالكريم الناعم، أم أن امرأةَ القصيدة لديه كيان من لحم ودم وعصب وفكر؟

- سأتكلم عن المرأة في شعري، مدركاً مدى التقاطع مع شعراء آخرين، وعسى أن يكون ثمة هامش يحمل البصمة التي في الإبهام، ولست أعول كثيراً على ذلك لأن لعوالم الروح فيزياءها الخاصة في التشابه.

الذي لا أجادل فيه أن العالم الخارجي، الطبيعة بكل ما فيها، والناس بما يحملون من جمال وقبح وقصص وقدرة على الأخذ والعطاء، هذا العالم هو البستان، أو حتى الصحراء التي يجد فيها الإنسان نفسه، فهو يمتح منها، ويدقق في مقاييسها، وينقش في زواياها، فالذي حوله هو المحطة التي منها ينطلق، بهذا المعنى نحن جميعا أبناء اللحم والدم والعصب والفكر والحس والجسد، تلك هي عوالمنا المنظورة، ذلك هو البستان الذي ما تزال تُعاد فيه مجريات الأحداث الأولى: آدم وحواء والتفاحة وهابيل وقابيل والقربان والأفعى؟ بيد أنها تلبس لبُوس أزمنتها، هذه المفردات الموجودة في المحيط الداخلي والخارجي هي الحجارة التي نلتقطها لنشذبها ولنترك فيها أثراً من أزاميل الروح.

ثمة في أعماقنا حنين إلى المطلق، هذا الحنين يحتوي المبدعَ في تعامله مع الأنثى، أقول المبدع دون أن أنسى أن الماء يأخذ لون الإناء وشكله،ودون إغفال أن ثمة مبدعين حتى حين يفاخرون بالانصهار في المادي البحت فإنهم، عن غير قصد، يرسمون شارة السهم الدال على ما هو روحي.

بالنسبة لي، في شعري يمتزج الآني بالأبدي، فأنا ابن الآني الحالم بالأبدي المغمور بالنور، ولا أرى توصيفاً،أو تخميناً، يمكن أن يشمل قصائد أي شاعر بحيث نقول إن المرأة لدى هذا الشاعر هي (كيت وكيت)، قد ينسحب مثل هذا النمط على عدد قليل من الشعراء ولا يُعمم، إذ في كل قصيدة عشق ثمة رصد، أو نبض، أو دندنات تختلف عما سبقها وعما تلاها، حتى حين تكون المرأة الجالسة في شرفة الحنين هي لم تتغير، لأننا في الإبداع لا نرسم التفصيلات الخارجية ذلك الرسم المحاكي، الثابت أبداً في إطار الصورة، بل نفتح آفاقاً تليق بالمشاعر المرهفة كشفرة سيف صْيغَ من أزاهير، ونرش الألوان على مساكب هاجعة لتنهض نشأةٌ جديدة من مخلوقات تلك العوالم.

برأيك، هل على الشاعر أن يعشق ليكتب، هل عليه أن يعيش الحالة كي يجسدها؟

- يستطيع الكاتب أن يكتب دون أن يعشق ولكن ليس عن العشق، لقد قالوا قديماً:

لا يعرف الشوقَ إلا من يكابده

ولا الصبابةَ إلا من يداريها

وأعتقد أن من مسته تلك النيران وعرف لذة لذعها يستطيع أن يميز بجدارة بين من يتحدث هكذا كمن يرسم في الهواء، ومن أعاد صوغَه الوجدُ، والذي لا يكتب عن حالة مَعيْشةٍ يكتب عن شيء ليس منه، وليس له، ولذا نجد أن أكثر الشعراء احتراقا في قصائدهم هم الصوفيون والعشاق، وكلاهما عاشق. تقرأ نصاً مكتوباً عن الحب فلا يثير فيك شيئا، ولا يدفعك لقولة (آهٍ) ممزوجة بالعذوبة والعذاب، فأية كتابة هذه؟ هنا النقص إما في الموهبة، وعلى صاحب تلك الكتابة أن يتخلى عن إيذاء القارئ، وإما هو نقص في التجربة، وآنئذ عليه أن يعرف معنى الحريق، العشّاق هم أناس تشع منهم مويجات تتلقاها أنفسٌ عرفت ثمار ذلك الذوق، فهم حين لا يبدعون كتابةً، يشكلون مناجم للإبداع.

عنود اسم أنثوي بدوي دائم الحضور في قصيدتك، ولك ديوان شعري يحمل هذا الاسم، من هي عنود؟ وماذا تمثل بالنسبة لك على الصعيد الشعري والإنساني؟

- لقد أوضحت في مقدمة هذه القصيدة، والمنشورة في مجموعتي عنود الصادرة عن اتحاد الكتاب العرب في دمشق عام ،1981 ما يلي: عنود اسم شائع لدى البدو ولدى مجاوري البادية، ولغة العنود: المائل عن القصد السحابة العنود: الكثيرة المطر لا تكاد تقلع. الرجل العنود: الذي يحل وحدَه، لا يخالط. العقبة العنود: الصعبة المرتقى، وهي مائلة عن القصد بقدر، وسحابة، وتختلط ولا تخالط، وصعبة المرتقى.

ذلك هو عنود الاسم، والاسم لا يكون إلا لمسمى، وإلا كان اسماً بغير دلالة، واسم عنود عندي والذي حضر شعرياً، في أكثر من مجموعة، وما يزال، هو ذلك الاسم بدلالاته، وهو اسم حركي إن صحت التسمية، وعنود بالنسبة لي فضاءات من الشعر، والتوق، والحَرد، والمشاكسات الودودة.

في زمن سادت فيه المشاعر المعلبة والأحاسيس المسطحة، هل أفل عصر الرومانسية، وهل أصيب الغزل بالسكتة القلبية؟

- الرومانسية ليست من الآفلين لأنها خصيصة روحية في الشعر، وطغيان ما تسميه المشاعر المعلبة والأحاسيس المسطحة هو لعبة آثمة مقصودة في وسائل الإعلام، هدفها تجريد الإنسان من ملامح إنسانيته وصبه في قوالب من الصدأ والقصدير. الرومانسية لا تأفل ما دام ثمة شعر رائع، والشعر الرائع، على قلته، لا ينقطع، لأنه ابن الحنين، ورفض الزائف القبيح، والأشواق المقدسة لتجليات الحق والخير والجمال.

هل يكون ناقد ما على صواب إذا أطلق عليك صفة الشاعر الريفي؟

- أنا ابن بيئة ريفية ولادة، ونشأة، والحي الذي أسكنه اليوم بناه ريفيون هاجروا من قراهم، الأمر الذي نتج عنه أن علاقاتنا وقيمنا، والمساحة التي نتحرك فيها هي ريفية بامتياز، وبين زرقَتيْ الريف والبداوة ضربتُ بأجنحتي، وهذا لا يعني أنني لست ابن المدينة، فأنا ابن هذا المنظور الثلاثي، وأن تتحرك في مكان فذلك يعني أن تملأ رئتيك بهوائه، والمبدع، أو المثقف الأصيل، يُفترض فيه ألا يكون شاشة لظهور الصورة، بل أن يكون فاعلاً بقوة فيأخذ من أي بيئة أجمل ما فيها لينثر بذوره في الأرض الطيبة، ويسعى لاستئصال البذور السامة، ولقد سعيت لهذا بقدر ما استطعت، وهنا أحب أن أذكر أن المستويات بين المدينة والريف، في سوريا، على مستوى الوعي ليست على درجة كبيرة من التباين كمقاطع اجتماعية، والفروق حين تتمايز هي فروق فردية، وليست فروقاً مدنية وريفية.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"