عادي
فيلسوف وفيزيائي وطبيب

ابن ملكا..أبو علم الحركة

01:35 صباحا
قراءة 7 دقائق

إعداد: محمد إسماعيل زاهر

«فلما قل عدد العلماء والمتعلمين وقصرت الأعمار، وقصرت الهمم، وانقرض كثير من العلوم، أخذ العلماء في تدوين الكتب وتصنيفها... واستعملوا في كثير منها الغامض من العبارات، والخفي من الإشارات التي يفهمها أرباب الفطنة، ويعرفها أهل صيانة العلوم... فلما استمر الأمر في تناقص العلماء وقلتهم في جيل بعد جيل، أخذ المتأخرون في شرح ذلك العويص، وإيضاح ذلك الخفي ببسط و تفصيل وتكرار وتطويل حتى كثرت الكتب والتصانيف وخالط أهلها فيها كثيراً من غير أهلها واختلط فيها كلام الفضلاء المجودين بكلام الجهال المقصرين»، بهذه الرؤية يوضح ابن ملكا العوامل التي دفعته إلى وضع كتابه «المعتبر في الحكمة»، وهو أشهر مؤلفات هذا الفيلسوف والطبيب والفيزيائي الذي أطلق عليه الكثيرون «أبو علم الحركة».

ولد أبو البركات هبة الله بن علي بن ملكا البغدادي في عام 480 ه في البصرة، ثم سافر إلى بغداد وعمل لدى الخليفتين المقتدي والمستنصر، ولقب بأوحد زمانه وهو اللقب الذي يصادف القارىء على غلاف الكتاب السابق، الذي طبع للمرة الأولى في حيدر آباد في عام 1357، كما لقب بفيلسوف العراقيين، ويبدو أنه لم يأخذ حظه من الشهرة، إذ تخلو قوائم الفلاسفة المعتمدة من مثقفينا المعاصرين من أي ذكر لابن ملكا، برغم أنه يسير في كتابه هذا على نهج الفلاسفة العرب والمسلمين، إذ يأخذ من معين الفلسفة اليونانية والحكمة المشرقية، وفي المنهج يبدأ بالإلهيات فالطبيعيات.. الخ، وبرغم أيضا نسخ الكتاب الخطية التي تملأ مكتبات العالم: دمشق، طهران، واستانبول.
قال عنه البيهقي في كتاب «تاريخ حكماء الإسلام» إنه نال رتبة أرسطو، وأورده ابن أبي أصيبعة ضمن الأطباء، ويمكن تلمس مبادىء المنهج العلمي الحديث في قوله في «المعتبر في الحكمة»: «... فعلى هذا يسهل طريق التعليم الحكمي الذي يكون بالنظر والاستدلال، وهذا القانون بعينه يستعمل في هذا العلم المسمى بالعلم الطبيعي، المنسوب إلى الطبيعة»، وترك ابن ملكا العديد من المؤلفات الحافلة بالمبتكرات والنظريات والآراء العلمية التطبيقية والتي قرظّها ابن أبي أصيبعة، ومنها: «مقالة في سبب ظهور الكواكب ليلاً واختفائها نهاراً»، «اختصار التشريح من كلام غالينوس»، «رسالة في العقل وماهيته»، «كتاب النفس»، و«كتاب التفسير».
يقول ابن ملكا شارحاً دأبه في دراسة علوم القدماء: «فلما قدر لي الاشتغال بالعلوم الحكمية بقراءة الكتب التي نُقلت عن المتقدمين والتفاسير والشروح والتصانيف التي شرحها وصنفها المتأخرون، كنت أقرأ كثيراً، واكب على الكتاب أكباباً طويلاً حتى أحصل منه علماً قليلاً، لأن كلام القدماء كان يصعب فهم كثير منه لاختصاره وقلة تحصيله، ومحصوله واختلال عبارته في نقله من لغة إلى لغة، وكلام المتأخرين لأجل طوله وبعد دليله وما بدل عليه... فكنت أجتهد بالفكر والنظر في تحصيل المعاني وفهمها».
ولد ابن ملكا في نهايات القرن الخامس الهجري وبدايات القرن السادس، ويتحفنا بكلام يبدو أنه يصلح بدوره لزمن آخر، فكتابة الحكمة بالإشارات من متقدمي فلاسفتنا تكرر نفسها في عصور الازدهار حتى من بين المشتغلين بذلك العلم غير المرغوب فيه «الفلسفة»، ولنتذكر مقولات لأعلام فلاسفتنا «إلجام العوام عن علم الكلام»، و«المضنون به على غير أهله»، لتتأكد هذه الحقيقة، أما في عصور التراجع فهناك الشروحات التي تتميز بالتطويل والتعقيد وعدم الفهم الناتج عن الجهل أو النقل عن لغة أخرى تختلف سياقاتها الثقافية تماما، ولهذه الأسباب ينكب ابن ملكا على كتب الحكمة ليجتهد بالفكر والنظر في الغامض والمعقد، ويمارس قراءته هو أو تأويله هو، وهي مهمة سيمارسها الكثير من مثقفينا على مدار تاريخنا الثقافي بأكمله.

العلاج النفسي

كان ابن ملكا مخلصاً لمناخ عصره، اشتغل بالطب، وجلس عند باب كبير أطباء زمانه أبي الحسن هبة الله بن الحسين يستمع إلى شرحه لطلابه كي يتعلم مهنة الطب، بل عالج «الأمور الوهمية»، بلغة ابن أبي أصيبعة، أي مارس العلاج النفسي، يقول صاحب «عيون الأنباء في طبقات الأطباء»: «أن مريضاً ببغداد كان عرض له علة الماليخوليا، وكان يعتقد أن على رأسه دنا، وأنه لا يفارقه أبداً، فكان كلما مشى يتحايد المواضع التي سقوفها قصيرة ويمشي برفق، ولا يترك أحداً يدنو منه حتى لا يميل الدن أو يقع عن رأسه، وبقي بهذا المرض مدة وهو في شدة منه، وعالجه جماعة من الأطباء، ولم يحصل بمعالجتهم تأثير ينتفع به، إلى أن عُرض على ابن ملكا، ففكر في أنه ما بقى شيء يمكن أن يبرأ به إلا بالأمور الوهمية، فقال لأهله: إذا كنت في الدار فأتوني به، وأمر أحد غلمانه بأن ذلك المريض إذا دخل عليه وشرع في الكلام معه، وأشار إلى الغلام بعلامة بينهما، أن يسارع بخشبة كبيرة فيضرب بها فوق رأس المريض على بعد منه كأنه يريد أن يكسر الدن الذي فوق رأسه، وأوصى غلام آخر، وكان قد أعد معه دنا في أعلى سطح المنزل، أنه متى رأى الغلام الأول قد ضرب فوق رأس صاحب الماليخوليا، أن يرمي الدن الذي عنده بسرعة إلى الأرض. وجلس ابن ملكا في داره وأتاه المريض وشرع في الكلام معه وحادثه، وأنكر عليه حمله للدن، وأشار إلى الغلام الأول بالعلامة التي بينهما، وحدث المريض قائلاً: والله لا بد أن أكسر هذا الدن وأريحك منه، وأدار الغلام الخشبة التي معه وضرب بها فوق رأس المريض بنحو زراع، ورمى الغلام الآخر الدن من أعلى السطح، فكانت له جلبة عظيمة، وتكسر قطعاً كثيرة، فلما عاين المريض ما فُعل به ورأى الدن منكسراً، تأوه لكسرهم إياه، ولم يشك أنه الذي كان على رأسه، وأثر فيه الوهم أثراً برىء من علته تلك»، وعلق ابن أبي أصيبعة على عمل ابن ملكا قائلاً: «وهذا باب عظيم في المداواة، وقد جرى أمثال ذلك لجماعة من الأطباء المتقدمين مثل غالينوس وغيره في مداواة الأمور الوهمية».
ولم يقتصر جهد ابن ملكا الطبي على التشخيص أو وصف الأدوية، ولكنه مارس الجراحة أيضاً، يذكر ابن أبي أن ابن ملكا «جاءه رجل به ورم إلا أنه كان ناقصاً، وكان يسيل منه صديد، فحين رأى ذلك بادر إلى سلامية إصبعه فقطعها، فقال له تلاميذه: لقد أجحفت في المداواة، وكان يغنيك أن تداويه بما يداوي به غيرك، وتبقى عليه إصبعه، ولاموه وهو لا ينطق بحرف، وفي اليوم الثاني جاء رجل آخر مريض بالورم نفسه، فأومأ إلى تلاميذه بمداواته، وقال افعلوا في هذا ما ترونه صواباً، فداووه بما يداوي به الورم، فاتسع المكان وذهب الظفر وتعدى الأمر إلى ذهاب السلامية الأولى من سلاميات الإصبع، ولم يتركوا دواء إلا وداووه به أو علاجاً إلا وعالجوه به، وهو مع ذلك يزداد ويأكل الإصبع أسرع أكلاً، وآل أمره إلى القطع، فعرفوا حق قدره، وقال تلامذته: وتفشى هذا المرض في تلك السنة».

قوانين علمية

لقد درس علماء العرب والمسلمين مسألة سقوط الجسم تحت تأثير قوة جذب الأرض، متخذاً في ذلك أقصر الطرق في سعيه للوصول إلى موضعه الطبيعي، وهو الخط المستقيم، وفي هذا الشأن يقول ابن ملكا: «فكل حركة طبيعية فعلى استقامة». كذلك أيقن ابن ملكا أنه لولا تعرض الأجسام الساقطة سقوطاً حراً لمقاومة الهواء لتساقطت الأجسام المختلفة الثقل والهيئة بالسرعة نفسها، وبذلك يكون ابن ملكا من أوائل من نقضوا القول المأثور عن أرسطو بتناسب سرعة سقوط الأجسام مع أثقالها، وهو قول خاطئ تماماً، فيكون ابن ملكا قد حقق سبقاً أكيداً في مجال حركة الأجسام تحت تأثير الجاذبية الأرضية قبل غاليليو، ويقول ابن ملكا أيضاً: «لو تحركت الأجسام في الخلاء، لتساوت حركة الثقيل والخفيف، والكبير والصغير، والمخروط المتحرك على رأسه الحاد، والمخروط المتحرك على قاعدته الواسعة، في السرعة والبطء، لأنها تختلف في الملء، بهذه الأشياء بسهولة خرقها لما تخرقه من المقاوم المخروق كالماء والهواء وغيره».
تتعدد نصوص ابن ملكا كذلك التي تتناول قوانين الحركة، ومنها: فإن الحركة إما طبيعية وإما قسرية، والقسرية يتقدمها الطبيعية، لأن المقسور إنما هو مقسور عن طبعه إلى طبع قاسره، فإذا لم يكن حركة بالطبع لم يكن حركة بالقسر، والطبيعية إنما تكون عن مباين بالطبع إلى مناسب بالطبع، أو إلى مناسب أنسب من مناسب. «يقصد ابن ملكا بالحركة الطبيعية حركة الجسم تحت تأثير قوة الجاذبية الأرضية، حيث إن الجسم يسعى في طلب وضعه الطبيعي عند مركز الأرض، ومن ثم جاءت تسمية هذا النوع من الحركات عن تعريض الجسم لمحرك خارجي يجبره على تغيير مكانه أو وضعه، مثال ذلك رمي السهم أو الحربة أو الحجر».
ويؤكد ابن ملكا هذه المعاني في موضع آخر من كتابه فيقول: «فبهذا يعلم أن لكل جسم طبيعي حيزاً طبيعياً، فيه يكون بالطبع، وإليه يتحرك إذا أزيل عنه، وهذا الحيز ليس هو للجسم بجسميته التي لا يخالف بها غيره من الأجسام، بل بصفة خاصة به هي طبيعية أو صورة خاصة بذلك الجسم، خصته بذلك الحيّز، وحرّكته إليه، فتلك الطبيعة الخاصة في ذلك الجسم مبدأ حركة بالطبع وسكون بالطبع، والتحريك النقلي المكاني إنما يكون عنها بعد سبب طارئ يخرج الجسم عن حيزه الطبيعي، فتحركه هي إليه»، وفي مكان آخر: «وكل حركة ففي زمان لا محالة، فالقوة الأشدّية تحرّك أسرع، وفي زمان أقصر، فكلما اشتدت القوة ازدادت السرعة، فقصر الزمان، فإذا لم تتناه الشدة لم تتناه السرعة، وفي ذلك أن تصير الحركة في غير زمان أشد، لأن سلب الزمان في السرعة نهاية ما للشدة»، ولنواصل الاستماع إليه: «إن الحلقة المتجاذبة بين المصارعين لكل واحد من المتجاذبين في جذبهما قوة مقاومة لقوة الآخر، وليس إذا غلب أحدهما فجذبها نحوه يكون قد خلت من قوة جذب الآخر، بل تلك القوة موجودة مقهورة، ولولاها لما احتاج الآخر إلى كل ذلك الجذب».
تخبرنا النصوص السابقة عن التفاف ابن ملكا إلى قوانين الحركة والجاذبية، وهي قوانين كانت تحتمها دراسة الفلسفة والتعمق فيها أكثر من الانهمام في علم الحركة في حد ذاته، ولكنها في النهاية قادت فيلسوفنا أو عالمنا ليصفه الكثيرون بعالم الحركة أو أبي علم الحركة، ولذلك تتعدد النصوص الدالة والمعبرة عن مفهوم الزمان والمكان والخلاء في «المعتبر في الحكمة».

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"