عادي
مثلما تعمل طهران من الداخل.. تتحرك أيضاً من الخارج

كيف يمكن للعرب مواجهة التمدد الإيراني؟

04:16 صباحا
قراءة 6 دقائق
القاهرة سامح راشد:
مع تنوع وتعدد أدوار وتحركات إيران الإقليمية، تفجرت أزمات واندلعت معارك ومواجهات مسلحة. إيران حاضرة فيها بقوة، سواء بشكل مباشر كما في سوريا، أو غير مباشر كما في اليمن والعراق. حتى صار الوضع الإقليمي يحتاج بل يفرض تنسيقاً عربياً لمواجهة التحدي الإيراني على أن ينطلق العمل في هذا الاتجاه، من الوقوف على مداخل وآليات التعامل الإيراني مع دول المنطقة ومشكلاتها وأزماتها.

نقطة البدء في وضع استراتيجية للتعامل مع إيران، هي فهم أبعاد الاستراتيجية الإيرانية التي تتبعها إزاء الدول العربية وقضايا المنطقة. ويمكن تحديد أبزر ملامح الاستراتيجية الإيرانية تجاه المنطقة فيما يلي:

دراسة الطرف الآخر: بعد قيام الثورة الإيرانية عام 1979، أمضت إيران عدة سنوات في استكشاف الخريطة الإقليمية والتعرف الى طبيعة وخصائص الدول المحيطة بها من كافة الاتجاهات؛ للوقوف على مكامن الضعف ونقاط القوة في كل منها. ثم قبل وضع استراتيجية التعامل الإقليمي بشكل عام، وتحديد آليات التعامل مع كل دولة حسب خصائصها وطبيعة التهديدات أو المصالح الإيرانية معها.
الجمع بين القوتين: رغم الأهمية المتزايدة التي اكتسبتها القوة الناعمة في العقدين الأخيرين، إلا أن طهران لم تتوقف يوماً عن اعتماد وتكريس موارد القوة الخشنة (المادية)، فكما وجهت اهتماماً خاصاً لوسائل الإعلام والخطاب الثقافي بل والفني من خلال الفضائيات والسينما وإقامة مراكز ثقافية في كثير من دول العالم، كانت تنمي قوتها المسلحة الذاتية سواء بالأسلحة التقليدية أو فوق التقليدية، بالإضافة إلى الدعم العسكري المباشر وغير المباشر لحلفائها ووكلائها في بعض دول المنطقة. مثل «حزب الله» في لبنان، والحوثيين «أنصار الله» في اليمن، وقبلهما قوات بدر وجيش الصدر ثم ميليشيات الحشد الشعبي في العراق. بإيجاز، تجمع إيران في استراتيجيتها الإقليمية بين مدخلي التواجد على الأرض والسيطرة على العقل.
العمل من الداخل: في كل مسارات السياسة الإيرانية تجاه دول المنطقة، تحرص طهران على إقامة روابط ونقاط نفوذ وتأثير داخلية دائمة وعضوية، وهي بذلك لا تطرق الأبواب المؤسسية الرسمية وحسب، لكن تعتبر المستوى غير الرسمي، خصوصاً الشعبي، هو الأساس والأكثر ديمومة وتأثيراً لصالحها. لذا تعمد دائماً إلى التغلغل اقتصادياً من خلال التجارة وبعض المشروعات الاستثمارية، أو ثقافياً وحضارياً عبر التواصل الشعبي في المناسبات الدينية والتقاليد الاجتماعية والبرامج السياحية وتبادل الوفود الطلابية. تلك المنافذ تخلق ارتباطات مصلحية وثقافية على المستوى غير الرسمي. الأمر الذي ينعكس لاحقاً على القرار الرسمي في إطار البيئة الداخلية الضاغطة عليه بما يتوافق مع مصالح وسياسات إيران.
التطويق: كما تعمل إيران من الداخل، تعمل أيضاً من الخارج، حيث تباشر إقامة علاقات قوية ووثيقة مع دول المحيط الإقليمي العربي. بحيث تمثل حزاماً آمناً لسياساتها، ومعاوناً لها عند اللزوم في مواجهة الدول العربية. وفي هذا السياق تأتي سلسلة التحركات الإيرانية بصفة خاصة تجاه الدول الإفريقية سواء في القرن الإفريقي ومنطقة البحيرات العظمى، أو جنوب الصحراء الكبرى؛ وذلك لتطويق دول شمال إفريقيا بين هذا الخط العرضي جنوباً والبحر المتوسط شمالاً. كما تطبق المبدأ ذاته في النطاق الإقليمي، تحديداً في المشرق العربي لتطويق شبه الجزيرة، حيث حرصت على خلق طوق موال لها قوامه المكون المذهبي في دول القوس الشمالي بالمنطقة، العراق وسوريا ولبنان، ثم عرس خنجر في اليمن خاصرة الجزيرة.

إضافة إلى ما سبق، هناك مقوم رئيسي وجوهري لم تتخل إيران عنه يوماً، ليس فقط لجهة سياساتها الإقليمية وإنما كأساس لمُجمل تحركاتها وسياساتها الداخلية والخارجية، وهو بناء القوة الذاتية بمختلف مكوناتها وأشكالها. وهذه هي نقطة البدء في امتلاك أي دولة الفاعلية والقدرة على التأثير في محيطها وبالتالي وضع استراتيجية ناجحة للتعامل مع الدول الأخرى.
وتلك هي البداية التي يجب على العرب الانطلاق منها، تعظيم القوة الذاتية وامتلاك مقومات وقدرات تكفل لها حرية الحركة ولو نسبياً ليس فقط تجاه طهران وإنما في البيئة الخارجية بشكل عام.

ملامح المراجعة المطلوبة

بعد عقود من التعامل العربي مع السياسة الإيرانية في ظل حكم الولي الفقيه، يبدو واضحاً أن ثمة ضرورة لمراجعة الأسس والمبادئ التي تعتمدها الدول العربية في التعاطي مع طهران، لتجديد الفكر وتنشيط الحركة العربية بما يلائم المستجدات والتطورات المتلاحقة حالياً.

التعامل بالمثل: هناك مبادئ وأسس ينبغي الالتزام بها كخطوط إرشادية للاستراتيجية العربية المقترحة في التعامل مع إيران. من أهم تلك المبادئ، مبدأ «المعاملة بالمثل» وهو القاعدة الأساسية الحاكمة للعلاقات بين الدول، أخذاً في الاعتبار أن الأساس هو التعاون وعدم الإضرار بمصالح الدول الأخرى، ومن ثم يكون التعامل بالمثل. غير أن لجوء بعض الدول إلى البحث عن مصالحها الذاتية بغض النظر عن الانعكاسات سلباً على مصالح ومواقف دول أخرى، يكون أحياناً أكثر مدعاة لتطبيق مبدأ التعامل بالمثل، وهو ما ينطبق بشدة على الحالة الإيرانية. مثلاً، طهران تتجاهل أن ارتباطاتها ببعض القوى الاجتماعية والسياسية في الداخل العربي، ودعمها لتلك القوى بأشكال متنوعة تشمل الدعم العسكري المباشر، يعد تدخلاً مباشراً في الشؤون الداخلية لتلك الدول، بل واعتداء مباشراً على أمنها وسيادتها.
إلا أن التزام الدول العربية بالمبادئ الحاكمة للعلاقات بين الدول، لم يردع إيران عن الاستمرار في انتهاك تلك المبادئ. ومن ثم، فإن التعامل بالمثل، في هذه الحالة، يمثل دفاعاً عن النفس بل ويعد ضرورة للرد على الأسلوب الإيراني غير المبالي بالمبادئ والأعراف الدولية.

دمج الأوراق: في إطار الاستراتيجية الإيرانية للعمل من داخل الدول العربية ثم توظيف روابطها لاحقاً، تعمد إلى المزج بين المسارات فتفتح الخطوط عرضياً بين الديني والسياسي والثقافي. ويصير البعد الديني أو بالتحديد المذهبي، حاضراً وفاعلاً في السياسة، بينما تخدم السياسة وتفاعلاتها المطالب المذهبية والثقافية، في تضافر معقد ومربك في كثير من الأحيان.

في المقابل، تتمسك الدول العربية بعدم الخلط بين تلك المسارات، فلا تستخدم المذهب أو الدين في علاقاتها السياسية، ولا تخضع العقائد وممارسة الشعائر لمقتضيات وتقلبات السياسة. وهو ما يوفر لطهران نوعاً من الأمان والطمأنينة لجهة التركيبة الطائفية الداخلية، سواء المذهبية أو العرقية. ذلك الامتناع الطوعي من الدول العربية يحتاج إلى مراجعة، حيث الواقع المعاصر لا يميز بين الديني والسياسي أو الاقتصادي عن العسكري. فالحرب الدائرة ضد تنظيم «داعش» هي مواجهة عسكرية لأهداف سياسية لها دوافع وأبعاد دينية بامتياز. وهو ما يجري أيضاً في ليبيا بين الفصائل المتناحرة هناك وامتدادات كل منها الخارجية. والأمر أوضح كثيراً في اليمن، حيث بدأت مطالب الحوثيين مذهبية فتطورت إلى سياسية وانتهت بسيطرة على الدولة ومواجهات عسكرية لاستعادتها. وهكذا لم يعد هناك مناص من الواقعية مع تلك التقاطعات لدى التعامل مع إيران.

تحرير الأدوات: المقصود بتحرير الأدوات، تخفيف القيود الرسمية المفروضة على أدوات وأذرع الدول العربية في مواجهة إيران، وهي ليست بالضرورة أدوات أو أذرعاً رسمية مباشرة، بل غير الرسمية هي الأكثر قدرة على التحرر والأجدر بالتحرك. ويشمل هذا بصفة خاصة كلاً من الإعلام والقوى غير الرسمي بما فيها المنظمات غير الحكومية والأحزاب والجمعيات الحقوقية وغيرها وكل القوى والأطراف التي تندرج في إطار «الفاعلين من غير الدول» حيث لا ارتباط بالمواقف الرسمية ولا بالالتزامات الدولية التقليدية، وفي الوقت ذاته يحظى أولئك الفاعلون بديناميكية التحرك وامتلاك أدوات ووسائل التأثير العامة بشكل يتجاوز الأدوات التقليدية للحكومات. غير أن هذا التوجه يستلزم بالضرورة ضوءاً أخضر من الحكومات العربية ودعماً غير مباشر لتلك القوى، تماماً كما تفعل إيران مع حلفائها ووكلائها الإقليميين والداخليين، وبالتضافر مع هذا النهج، يلعب الإعلام دوراً شديد المحورية والفاعلية في تسليط الضوء على الأوضاع الداخلية في إيران بمساعدة تلك الجماعات والقوى غير الرسمية، وأيضاً على أنشطة وتحركات إيران الإقليمية المناوئة لمصالح واستقرار الدول العربية. ولا جدال في أن الإعلام العربي يعاني مشكلة حقيقية ليس فقط تجاه إيران، ولكن بشكل عام، فباستثناءات قليلة، الإعلام العربي عاجز عن مجاراة وسائل الإعلام الاحترافية سواء الإيرانية أو الأجنبية. وأحد أهم أسباب ذلك العجز يرتبط بالقيود الرسمية المفروضة على الإعلام، حيث سقف الحرية ونطاق الحركة محدودان بشكل عام.

كل المتطلبات والأسس السابقة، تحتاج بدورها إلى شرط مسبق ضروري، هو وجود تنسيق عربي عربي. ينبني لدوره على تفاهم وتحديد جماعي لطبيعة ومدى المخاطر (أو ربما المصالح) المترتبة على تحركات إيران وسياساتها في المنطقة. فالثابت حتى الآن، أنه لا إجماع عربياً على توصيف وتقييم وضعية ودور إيران في المنطقة، وحدود أو عمق ذلك التقييم، سواء كان إيجابياً أو سلبياً، ومن ثم فسواء تطبيق خطوات عملية لمواجهة إيران، أو فكرة وضع استراتيجية عربية موحدة أو على الأقل منسقة تجاهها، تظل أمنيات أكثر منها توقعات، ما لم يبادر العرب إلى الاتفاق أو حتى التوافق على أبجديات الوضع الإقليمي وموقع إيران منه. والرؤية العربية لما يجب أن تكون عليه العلاقة معها، تعاونية كانت أو صراعية.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"