عادي

رحلة مع ديستويفسكي في قطار

03:02 صباحا
قراءة 3 دقائق
القاهرة: «الخليج»

أصدرت الهيئة المصرية العامة للكتاب، ترجمة أنور إبراهيم لرواية «صيف في بادن» للكاتب ليونيد تسيبكين؛ حيث يلتقي قراء هذه الرواية منذ الصفحة الأولى من الرواية، في القطار المسافر إلى ليننجراد، ويكشف لنا المؤلف، استناداً إلى اهتمامه البالغ بوصف تفاصيل أحد الكتب العزيزة على نفسه، من خلال وصفه لغلاف هذا الكتاب والشريط الموشى بالرسم الذي يحفظ الصفحة للقارئ، أن هذا الكتاب القديم المهترئ تقريباً، هو طبعة من مذكرات أنا جريجوريفنا ديستويفسكايا، زوجة ديستويفسكي الثانية، استعاره «تسيبكين» من خالته التي تقتني مكتبة كبيرة، وكان يضمر في داخله رغبة دفينة ألا يعيده إليها.
بدأ المؤلف كتابة روايته عام 1977 لينهيها عام 1980، وقد سبق كتابة الرواية سنوات من الإعداد لها: العمل في المكتبات، والتردد على الأماكن وثيقة الصلة بديستويفسكي وأبطاله، التقط الكاتب صوراً فوتوغرافية للأماكن التي وصفها ديستويفسكي في فصول العام نفسها، بل حتى في الأيام نفسها، إذا ما كانت قد وردت في رواياته، كان تسيبكين، هاوياً للتصوير منذ شبابه، وقد اقتنى آلة تصوير بدءاً من الخمسينات، وبعد أن أنهى كتابة الرواية قدم ألبوم هذه الصور إلى متحف ديستويفسكي في ليننجراد.
تقدم الرواية من البداية عرضاً مزدوجاً، هذا فصل الشتاء، نهاية ديسمبر، وتخلق على الفور أكثر من واقع، وهي تصفها جميعاً، وتصورها بشكل أقرب ما يكون إلى هلاوس تيار الوعي، وترجع أصالة هذه الرواية إلى قدرتها على أن تقدم سرداً زمنياً على لسان قاص مجهول، يسافر وسط الواقع السوفييتي الجهم، ويغامر في الوقت نفسه بالدخول إلى تاريخ الزوجين ديستويفسكي المسافرين أيضاً، وإذا بالماضي يتدفق واضحاً على نحو محموم عبر أطلال الثقافة المعاصرة.
لم يكن القمار وحده ولا الإبداع والتدين هو الذي حدد الاتجاه الرئيسي في تصوير حياة ديستويفسكي في هذه الرواية، وإنما الهوى النبيل المتقد، الذي اضطرم بين الزوجين بلا قيد أو شرط، لا يوجد في الرواية أي شيء مختلق، وفي الوقت نفسه فهي رواية مبتكرة في كل شيء، الأحداث مبنية حول رحلة إلى أماكن ديستويفسكي ورواياته، لكن هذه الرحلة ليست سوى ذريعة من أجل إبداع هذا الكتاب الذي ينتمي إلى جنس الروايات النادرة الاستثنائية؛ حيث يتناول شخصية تاريخية، هي ممثل بارز لعصر يشتبك مع التاريخ الحاضر، يحاول الكاتب أن ينفذ بأكبر قدر من العمق إلى عالم هذه الشخصية.
وإلى جانب القص عن ديستويفسكي العظيم، فإن الرواية رحلة رائعة عبر الواقع الروسي، يتمثل أمامنا الماضي السوفييتي، منذ زمن الرعب الأكبر في الثلاثينات، وتسجل الرواية نبض التاريخ وفيها نجد بوشكين وتورجنيف في مشهد الجدل الحاد بينه وبين ديستويفسكي، ونجد الشخصيات العظيمة، التي مثلت النقيض لمعايير الأدب السوفييتي في القرن العشرين.
لكن لماذا ظل هذا الكتاب مجهولاً؟ يجيب أنور إبراهيم، بأن المؤلف كان طبيباً وباحثاً شهيراً، خارج الجماعات الأدبية المستقلة، والدوائر الأدبية السرية التي ازدهرت في موسكو في الستينات والسبعينات، وفي تلك السنوات كان المؤلف يكتب ويضع ما يكتبه في الدرج، وكانت الرقابة ومصاعب أخرى وراء ذلك. في مطلع مارس 1982 يتوجه تسيبكين، إلى إدارة جوازات موسكو؛ حيث قالوا له: «يا دكتور غير مسموح لك بالسفر مطلقاً»، وبعد ذلك بحوالي أسبوع تم الاستغناء عنه في العمل، وفي اليوم التالي أبلغ والده بأن رواية «صيف في بادن» طبعت في نيويورك، وفي العشرين من مارس جلس إلى مكتبه في ذكرى ميلاده السادس والخمسين، ليترجم نصاً طبياً، لكنه شعر بإعياء شديد، فنادى على زوجته، وما لبث أن لفظ أنفاسه الأخيرة، ولم يكن قد مر على صدور كتابه سوى سبعة أيام.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"