عادي
سقوط أنظمة وصعود قوى سياسية وتنظيمات إرهابية وحروب أهلية

7 أعوام على «خريف 2011».. «مفصل» التاريخ العربي الحديث

04:55 صباحا
قراءة 14 دقيقة
كان العام 2011 مفصلياً في التاريخ العربي الحديث، فقد تفجرت فيه احتجاجات شعبية تفاوتت حدتها وقوتها، وأدت إلى إسقاط أنظمة قائمة، وإلى صعود قوى سياسية وجماعات وتنظيمات شاذة، وإلى حروب أهلية ما زال بعضها يحرق ثلاثة بلدان عربية، من دون أن تتضح في الأفق متى تضع هذه الحروب أوزارها.
في الذكرى السابعة لاندلاع ما سُمي بثورات الربيع العربي، والتي تحول بعضها إلى صيف لاهب، لم يعد من المهم استذكار متى حدثت هذه الثورة في هذا البلد أو ذاك. فالوقائع والأحداث مازالت ماثلة وحية في الأذهان، وما زالت الجروح وإن خفت آلامها، فإن ندوبها لم تنمحِ بعدُ.
انطلق الربيع العربي من تونس في 17 ديسمبر/‏‏‏كانون الأول 2010، وانتهى بسقوط نظام الرئيس زين العابدين بن علي، وليتجاذب البلاد بعد ذلك الصراع بين الإسلاميين وبقية الأحزاب السياسية، والقوى المجتمعية الرئيسية، والقوية والفاعلة، ما ساعد على تصحيح المسار، وتجنيب تونس المصير القاتم، الذي طبع دولاً أخرى.
وقادت ثورة 25 يناير/‏‏‏كانون الثاني المصرية إلى تنحي الرئيس محمد حسني مبارك، ومحاكمته ونجليه ورموز نظامه، لتنتهي الفترة الانتقالية بالانتخابات التي استغلتها جماعة «الإخوان» الإرهابية ووصلت بأساليبها إلى سدة الحكم، إلا أن الأخطاء والخطايا الاستراتيجية والتكتيكية التي ارتكبتها «الجماعة» خلال عام من الحكم، أدت إلى ثورة 30 يونيو/‏‏‏حزيران، وعزل محمد مرسي، وأثبت «الإخوان» أنهم معادون للدولة والشعب وللمدنية وحقوق الإنسان.
وفي ليبيا اندلعت الاحتجاجات في 17 فبراير/‏‏‏شباط، وواجهها النظام بقسوة ووحشية، وتحولت إلى حرب داخلية بين الفصائل والمدن من جهة، والنظام من جهة أخرى، وتدخل حلف شمال الأطلسي، ما أسهم في سقوط أركان الحكم، ومقتل العقيد معمر القذافي بعد ثمانية شهور، و ليبيا حاليا تعيش الانقسام بين شرق وغرب، وتصاعد النزعات الانفصالية، وانتشار تنظيم «داعش» الإرهابي.
واندلعت ثورة الشباب اليمنية في 11 فبراير، واستمرت سلمية إلى أن تنحى الرئيس السابق علي عبدالله صالح لنائبه، بموجب المبادرة الخليجية في 23 يناير 2012. إلا أن صالح تحالف مع الحوثيين؛ للانقضاض على الشرعية، واحتلال العاصمة صنعاء، ثم احتلال بقية المحافظات، غير أن التحالف العربي لدعم الشرعية في اليمن حرر عدن كرأس جسر لمواجهة الانقلابيين، واستردت قوات الشرعية والمقاومة الشعبية معظم المحافظات اليمنية، بما يساوي 85% من مساحة اليمن. وبات مصير الانقلابيين في صنعاء بعد اغتيالهم حليفهم صالح حرجاً، فقد فقدوا الغطاء السياسي، وباتوا مجرد ميليشيات طائفية ظلامية تنفذ أجندة إيران، التي تمولها وتهرب إليها الأسلحة.
أما الثورة السورية التي اندلعت في 15 مارس/‏‏‏آذار فقد بدأت سلمية إلا أن القمع الوحشي الذي اتبعه النظام أدى إلى انشقاق في الجيش السوري، واتساع رقعة الحرب لتشمل كل الأراضي السورية.
هناك جملة عوامل وأسباب داخلية مجتمعة بالطبع هي التي أدت إلى نزول الجماهير العربية إلى الشوارع في 2011، ويستطيع الباحث في الأمر أن يجمل هذه الأسباب الداخلية في تشبث الأنظمة التي فقدت صلاحيتها بالحكم، واستعدادها للدفاع عن نفسها حتى النهاية، فإما الاستمرار في القصر وإما النزول إلى القبر. وفي مثل هذه الأنظمة، التي تخدم نفسها وطبقتها يتم حرمان الآخرين من حقوقهم السياسية والاقتصادية، ومن حقهم في المواطنة.
وفي مثل هذه الأوضاع تسوء الأوضاع المعيشية، وترتفع الأسعار، وتنحسر الطبقة الوسطى، وتتزايد نسبة الفقر والجهل والأمية، وترتفع نسبة البطالة بين الشباب، ويفقد المجتمع أي أمل في التغيير، ويصيب الإحباط واليأس قلب الأمة النابض وهم فئة الشباب، وتنسد أمامهم الآفاق، فإما أن يدمنوا على الممنوعات وإما أن يلجؤوا إلى الهجرة غير الشرعية أو ينضموا إلى الجماعات المتطرفة، التي تعدهم بالجنة والحليب والعسل.
خرجت الجماهير العربية إلى الشوارع قبل 7 سنوات بحثاً عن تحقيق الديمقراطية ، وتوفير الحياة الحرة الكريمة للمواطن.
قد تصيب الجماهير وتخطئ قياداتها، وقد ينحرف المسار، إلا أن النظام الديمقراطي الحقيقي ودولة المؤسسات يكفلان تصحيح المسار.
فهل استوعب النظام العربي الدرس، أم أنه يحتاج إلى درس آخر تعود فيه الجماهير إلى الشارع.

تدمير البنية التحتية وارتفاع نسبة البطالة

«ربيع الخسائر».. انهيار اقتصادي و 14.4 مليون لاجئ ومستقبل مجهول

أدى ما اصطلح على تسميته بثورات الربيع العربي إلى خسائر فادحة على المستويات الاقتصادية والبشرية والاجتماعية في الدول التي حدثت فيها هذه الانتفاضات مباشرة وجوارها نتيجة للآثار المترتبة عليها.
وقد تراوحت الخسائر الاقتصادية - حسب تقارير أممية ودولية - ما بين أكثر من 600 و833 مليار دولار.
تقرير «تكلفة الربيع العربي» الذي أصدره «المنتدى الاستراتيجي العربي»، قدر أن الثمن الاقتصادي الذي دفعته الشعوب العربية التي انتفضت ضد أنظمتها الحاكمة، بلغ 833.7 مليار دولار شاملةً تكلفة إعادة البناء وخسائر الناتج المحلي والسياحة وتكلفة اللاجئين وخسائر أسواق الأسهم والاستثمارات، وتناول التقرير بالأرقام نتائج هذه التداعيات وانعكاساتها السلبية على التنمية الاقتصادية والاجتماعية في المنطقة. واستند إلى تحليل المعلومات الواردة في تقارير عالمية صادرة عن البنك الدولي للإنشاء والتعمير، والمفوضية العليا للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين، ومؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية (أونكتاد)، واللجنة الاقتصادية والاجتماعية لغربي آسيا التابعة للأمم المتحدة (أسكوا)، ومكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية (أوتشا)، والمركز التجاري العالمي التابع لمنظمة التجارة العالمية.
يكشف التقرير الذي نشر في أواخر 2016، حجم التكلفة الكبيرة التي نجمت عن أحداث الربيع العربي من خلال تغطية 9 محاور هي: الناتج المحلي الإجمالي، والقطاع السياحي، والعمالة، وأسواق الأوراق المالية، والاستثمار الأجنبي المباشر، واللاجئون، وإعادة بناء البنية التحتية المدمرة.
ويشير التقرير إلى أن التكلفة التي تكبدها العالم العربي بفعل الانتفاضات الشعبية بين عامي 2010 و2014 وصلت إلى نحو 833.7 مليار دولار أمريكي، بالإضافة إلى 1.34 مليون قتيل وجريح بسبب الحروب والعمليات الإرهابية، وبلغ حجم الضرر في البنية التحتية ما يعادل 461 مليار دولار أمريكي، فضلاً عما لحق من أضرار وتدمير للمواقع الأثرية التي لا تقدر بثمن.
وبلغت الخسارة التراكمية الناجمة عن الناتج المحلي الإجمالي الذي كان بالإمكان تحقيقه 289 مليار دولار أمريكي،عند احتساب تقديرات نمو الناتج الإجمالي المحلي نسبةً إلى سعر صرف العملات المحلية.
كما بلغت خسائر أسواق الأسهم والاستثمارات أكثر من 35 مليار دولار حيث خسرت الأسواق المالية 18.3 مليار دولار أمريكي وتقلص الاستثمار الأجنبي المباشر بمعدل 16.7 مليار دولار.
والمدهش هو أن التغير في اقتصادات دول الربيع العربي يختلف عن التغير الذي سجل في المنطقتين الجغرافيتين اللتين تنتمي إليهما هذه الدول، أي شمال إفريقيا وغرب آسيا.ويشير التقرير إلى أن عدم استقرار المنطقة والعمليات الإرهابية تسببت في تراجع تدفق السياح بحدود 103.4 مليون سائح عما كان متوقعاً في سنوات الاضطراب التي تلت اندلاع الاحتجاجات ، والتي تسببت أيضاً في تشريد أكثر من 14 مليون و389 ألف لاجئ، أما تكلفة اللاجئين فبلغت 48.7 مليار دولار.
وكان تقرير أصدرته منظمة الأمم المتحدة في 2016، قد قدر أن ثورات الربيع العربى،خلفت خسائر اقتصادية كبيرة بأكثر من 600 مليار دولار أمريكي. وأشار تقرير المنظمة الدولية إلى أن المنطقة العربية تكبدت خلال سنوات الأزمة منذ عام 2010 خسائر اقتصادية كبيرة بلغت بالتحديد 613.8 مليار دولار أمريكي من تعاملاتها الاقتصادية، أي نحو 6% من إجمالي الناتج المحلي خلال الفترة من 2011 إلى 2015.
استخدم التقرير، الذي أصدرته اللجنة الاقتصادية والاجتماعية لغربي آسيا التابعة للأمم المتحدة (أسكوا) تقديرات لمعدل النمو في البلدان العربية قبل 2011، لتساعده على فهم حجم الخسارة التي تسببت فيها ثورات الربيع العربي. ورغم ان التقرير هو الأول من نوعه الذي يصدر عن كيان اقتصادي كبير، ويركز بشكل أكبر على الوضع الاقتصادي للمنطقة، إلا أنه قدم تقديرا كميا نادرا لتكلفة ثورات الربيع العربي بالنسبة لسكان المنطقة العربية.
وأشار التقرير إلى أن النزاعات والأزمات السياسية فى المنطقة لم تكن وحدها التي أضرت بالحالة الاقتصادية، لكن انخفاض أسعار النفط أدى كذلك إلى تراجع حاد في عوائد تصدير النفط لدى العديد من الدول العربية.
عموماً، أكد التقرير أن النزاعات كان لها التأثير الأكبر على الخسائر الاقتصادية، وأشار إلى أن الحرب السورية التي تكاد تكمل عامها السابع وتدخل في الثامن، تسببت في خسائر على إجمالي الناتج المحلي السوري ب259 مليار دولار منذ 2011.
وركز التقرير على أن النزاعات وتغيير أنظمة الحكم والانتقال السياسي في المنطقة العربية لم تساعد النمو الاقتصادي، وأرجعت ذلك جزئياً، إلى عدم إجراء إصلاحات تعالج القضايا التي أدت في الأساس لاندلاع الثورات.
وأشار تقرير «أسكوا» أيضاً إلى أن النزاعات كان لها أيضاً تأثير اجتماعي كبير، على قاعدة السكان الواسعة التي نزحت داخليا أو لجأت إلى دول أخرى، جراء الحروب، وارتفاع معدلات البطالة في البلاد التي شهدت الصراعات، أو تلك التي استقبلت اللاجئين بسبب الأزمات التي تعانى منها جيرانها.

أسئلة ملحّة: ما حدث هل هو أمر عفوي أم نتيجة مؤامرة؟

«الاحتجاجات الشعبية».. شرارة أكبر مخطط لتفتيت الشرق الأوسط

بعد 7 سنوات من ثورات الخريف العربي أو ما اصطلح على تسميته «الربيع العربي»، التي اجتاحت بشكل متزامن أحياناً ومتعاقب أحياناً أخرى دولاً عربية عدة، وبحساب ما آلت إليه الأمور، تثور أسئلة ملحة حول ما حدث: هل كان أمراً عفوياً، أم أن هناك أياد خفية كانت تحرك الأحداث أو تشعل الشرارة؟ كما تتصاعد شكوك كثيفة حول دور من وراء الكواليس، لدول وأجهزة مخابرات وشخصيات لعبت أدواراً ثم اختفت كالأشباح.
يعتبر البعض أن الحديث عن أيد خفية، يعني تجريد الشعوب من شرف إشعال الاحتجاجات أو الثورات ونسبته إلى جهات أخرى غير وطنية، أو من خارج المنطقة، كما أن مثل هذا الحديث يعيدنا إلى مربع «نظرية المؤامرة» لتفسير كل شيء. ولكن ماهو ثابت بالأدلة أن قطر لعبت دوراً كبيراً ومريباً في ثورات الربيع العربي، وسخّرت شبه الجزيرة الصغيرة، الباحثة عن دور إقليمي أكبر من حجمها، أموالها وإعلامها لدعم ومساندة جماعة «الإخوان» الإرهابية الموالين لها في دول الربيع العربي، خاصة تونس ومصر وليبيا وسوريا. وكانت قناة الجزيرة الفضائية منصة للإسلاميين يطلون منها ويروّجون لأنفسهم ولأدوارهم، كما أن تغطية الجزيرة الإخبارية والمستمرة، كانت تعبر عن الانحياز القطري لتيارات دون أخرى، ولم تكن متوازنة في تقديم الفرص والتغطية.
إلى جانب الدعم المادي والإعلامي، تدخلت قطر مباشرة في الصراع الليبي، وشاركت في البدء عملياً عبر الجهد الجماعي الذي قاده حلف شمال الأطلسي، ثم انفردت بدور مباشر للتدخل بقوات ومخابرات ومستشارين وبأسلحة، إلى جانب الإسلاميين في مواجهة القوى الوطنية والقومية الليبية الأخرى.
ودفعت قطر الأموال إلى أجهزة إعلام غربية ومراكز أبحاث، وخاض وزير خارجيتها الأسبق حمد بن جاسم بن جبر آل ثاني، جهوداً دبلوماسية مكوكية على العواصم الغربية لإقناع صناع القرار بإعطاء الإسلاميين وعلى رأسهم «الإخوان» المسلمين الفرصة ليحكموا، وليكونوا بديلاً للقوى والتيارات الوطنية واليسارية والقومية في دول مثل مصر وتونس وليبيا.
وأكد حمد بن جاسم في لقاءات تلفزيونية وصحفية، وفي محاضرات قيامه بهذا الدور، وزعمه بأن الدوحة تدخلت في ثورات الربيع العربي دعماً للشعوب، ورفضاً للدكتاتورية والظلم!
وبعد سقوط النظام «الإخواني» في مصر وتراجع حزب النهضة في تونس، ورفض المجتمع الدولي للتنظيمات «الإخوانية» الإرهابية والخارجة من عباءتهم في ليبيا وسوريا، لم تتخل قطر عن الانحياز إلى هذه التنظيمات، على الرغم من أن شعوبها قد لفظتها ورفضتها، ما يؤكد أن الدور القطري لم يكن لوجه الله، ولم يكن انحيازاً إلى جانب الشعوب ضد الأنظمة الحاكمة.
وقد يكون دور قطر غير أصيل، بل هي مجرد مشارك في مخطط أكبر منها، وهي تنفذ فقط الدور المطلوب منها، ومحركها الأساسي هو الانفراد بدور إقليمي أكبر منها حجماً، بحيث تبقى قطر الحليف الموثوق به لدى الغرب خاصة الولايات المتحدة، والتقدم خطوة إلى الأمام بالاعتراف ب«إسرائيل» وقيادة العرب نحو التطبيع وفق الشروط «الإسرائيلية».
هذا الدور المرسوم يقود إلى الحديث عن الأصابع «الإسرائيلية» باعتبار أن المستفيد من ثورات الربيع العربي هي «إسرائيل»، فكل ما يسهم في إضعاف القومية العربية والوحدة العربية ومؤسساتها ومشروع النهضة العربية، يصب في صالح «إسرائيل».
فما شهده الوطن العربي بعد «الربيع العربي» من تنامي العنف، وتأجيج الصراعات الدموية، والحروب القائمة على أساس الطائفية والدين والمذهب والإثنيات، يؤكد صحة ما كشف النقاب عنه من مخططات دبرت في الخفاء، لاستهداف العرب إقليمياً وقومية ووحدة ومشروعاً نهضوياً، بعد مئة عام من المخطط الأول لتقسيم المنطقة (اتفاقية سايكس- بيكو)، خاصة بعد أن أيقظت ثورات التحرر العربي الأشواق للوحدة السياسية والجغرافية، تمهيداً لمواجهة إسرائيل واجتثاثها من المنطقة.
وكانت «إسرائيل» تعول بعد كامب ديفيد، ووادي عربة، ومؤتمر مدريد واتفاقية أوسلو، على أن تكون جزءاً من المنطقة منزوعة الصفة العربية، مفضلة مصطلح الشرق الأوسط لتكون قوة اقتصادية وعسكرية في المنطقة.
وعقب فشل المشروع الذي طرحه رئيس الوزراء الأسبق حينها شيمون بيريز، وتولت كِبْر المشروع مراكز بحثية في جامعات أمريكية، أخرجته بصيغة جديدة ورعته اللوبيات «الإسرائيلية» النافذة في الولايات المتحدة، ويقوم على تقسيم الدول العربية بحدودها الحالية، بحيث تتفتت هذه الدول إلى دويلات صغيرة متشرذمة، تقوم على أسس طائفية دينية ومذهبية وإثنية، وهو الوضع الذي يسمح ل«إسرائيل» بأن تكون دولة في المنطقة شرعية الوجود والحضور، إلى جانب امتلاكها القوة والمال والنفوذ والديمقراطية المزعومة، لتقود المنطقة وتلحقها بالعجلة الاقتصادية «الإسرائيلية».
وقد كشف النقاب منذ مطلع الألفية الثالثة عن مخطط لإعادة ترتيب الشرق الأوسط الكبير، الممتد من أفغانستان إلى سواحل الأطلسي في شمال إفريقيا. وتحدث نائب الرئيس الأمريكي الأسبق ديك تشيني، عن إعادة خلق المنطقة العربية، وتحدثت كوندوليزا رايس وزيرة الخارجية، ومستشارة الأمن القومي السابقة في البيت الأبيض، على عهد الرئيس جورج دبليو بوش عن «الفوضى الخلاقة»، لإعادة رسم خرائط المنطقة وإعادة تشكيل الشعوب على الأسس الطائفية الدينية والمذهبية والإثنية، وعلى قواعد مدروسة ودقيقة تضمن بقاء «إسرائيل» وتفوقها النوعي اقتصادياً وعسكرياً.
وقد أقر الكونجرس الأمريكي في 1983 ما بات يعرف ب«وثيقة برنار هنري لويس»، أخطر مخطط طرح في القرن العشرين لتفتيت الشرق الأوسط، إلى أكثر من ثلاثين دويلة إثنية ومذهبية.
وقد نشرت الوثيقة أول مرة بمجلة وزارة الدفاع الأمريكية، مرفقة بمجموعة من الخرائط التي توضح تقسيم كل دولة عربية إلى 4 دويلات، وقُسمت دول أخرى إلى أكثر من 4 دويلات. والهدف النهائي هو تحويل المنطقة العربية إلى فتات مذهبي وطائفي وعرقي متنافر، واستبدال القيم والعقائد والأهداف الجمعية الراهنة، بما يقود إلى إخضاع المنطقة نهائياً ل«إسرائيل».
وعلى عهد الرئيس الأسبق بوش الابن، كان برنار لويس، هو منظر سياسة التدخل الأمريكي في المنطقة العربية، تحت عنوان الحرية الدائمة ومكافحة الإرهاب. والتدخل الأمريكي منذ البدء صوب في العراق، باتجاه إثارة النعرات الطائفية والمذهبية والإثنية. والأمر الذي لا يجعل من المستغرب التصديق بأن الإدارة الأمريكية، تعمل عملياً على تنفيذ المخطط، والدليل ما حدث في العراق وفي السودان.
وقد كان لافتاً حضور برنار لويس على الدوام في ثورات 2011 العربية، فقد أنزل العلم الأخضر الذي اعتمدته ليبيا، رداً على اتفاقيات كامب ديفيد 1977، ورفع العلم الملكي، ووضع خريطة التقسيم الجاهزة المعالم لليبيا. وكان يتجول في ضواحي بنغازي، ومصراتة، وطرابلس، وتكرر ظهوره في الجزائر، مع سعيد سعدي، زعيم حزب التجمع من أجل الثقافة والديمقراطية،
وسجل حضوره في التظاهرات التي اجتاحت شوارع تونس، قبل سقوط زين العابدين بن علي، وظهر مراراً وتكراراً في ميدان التحرير وسط القاهرة، ووزّع الطعام على المحتجين في الميدان من دون أن يتعرف إليه أحد، واشترك معهم في اقتحام أمن الدولة
وأعادت صحف ومجلات أمريكية واسعة الانتشار مثل فاينانشال تايمز، ونيويورك تايمز، وواشنطن بوست، ومجلة تايم، نشر الخرائط في خطة برنار لويس، ويعتقد برنار لويس، أن الطبيعة والتركيبة القبلية والعشائرية للدول العربية على مر السنين، تجعل من المستحيل على العرب بزعمه تكوين دولة بالمعنى الحديث، وذلك لأنهم مؤسسون على مجتمع محكوم بالنظام الطائفي.
ويرى أن على أمريكا استثمار هذه التناقضات العرقية والعصبيات القبلية والطائفية، لتصب في مصالحها الاستراتيجية بالمنطقة، بالتزامن مع استخدام السياسة الاستعمارية البريطانية «فرق تسد».

«الثورات» أفرزت ظواهر شاذة استهدفت الدولة المدنية الحديثة

يعتقد الكثير من المفكرين العرب أن واحدة من النتائج الكارثية التي نجمت عما يسمى ثورات الربيع العربي، كانت استهداف الدولة المدنية الحديثة، وتفكيك الدولة القائمة على التعاقد الاجتماعي، وتدمير كل المكتسبات الوطنية، وتدمير المشروع النهضوي العربي، والعودة بالبلاد العربية إلى قرون سالفة، سمتُها الطغيان والتخلف والجهل والمرض، والحكم باسم الدين.
ومن هذه الظواهر التي طفت على المسرحين الجغرافي والسياسي، طغيان الأحزاب الدينية والمذهبية، وبروز جماعات تتبنى العنف باسم الدين لتحقيق الدولة الثيوقراطية، مثل تنظيم «داعش» وأشباهه في سوريا، و«الحشد الشعبي» والأحزاب الموالية لإيران في العراق، والأحزاب المنافقة التي تدعي الإيمان بالديمقراطية والتعددية للوصول إلى سدة الحكم، وعندما تبلغ غايتها تتبنى مناهج الاستئصال والإبعاد والتمكين لنفسها، ونسف المؤسسات الديمقراطية والطغيان بالأمر سياسة وإعلاماً وحكماً وإدارة واقتصاداً.
إذا كان الدافع الأول للانتفاضات الشعبية إعلاء شأن الدولة المدنية الحديثة ورفض دولة الطغيان، فإن إحدى النتائج التي ترتبت على هذا الهدف السامي، النكوص عنه ومحاولة العودة بالدولة الحديثة إلى عهد الظلامية والغيابات. بمعنى أن الهدف جاء بنتيجة عكسية لا تتماشى مع الطموحات التي حركت الجماهير للنزول إلى الشوارع للمطالبة بالتغيير، واسترداد الدولة الحديثة التي تقوم على التعاقد الاجتماعي والمؤسسات، وسيادة القانون، والفصل بين السلطات، والتعددية، وتداول السلطة، والعدالة الاجتماعية والكرامة الإنسانية وحقوق الإنسان.
وقد حاولت أحزاب دينية وطائفية ومذهبية ومناطقية، وجماعات إرهابية اختطاف ثورات الربيع العربي وتجييرها لصالحها، ولصالح مشروعاتها التي تضاد الدولة المدنية الحديثة. ومن أمثال ذلك محاولة الإخوان المسلمين في مصر ترجمة فوزهم في الانتخابات البرلمانية والرئاسية إلى تكريس أبدي للتنظيم، وقد قاتلت جماعة الإخوان ومتفرعاتها في ليبيا من أجل الاستيلاء بالقوة على السلطة، وبالمخالفة لنتائج صناديق الاقتراع والاتفاقيات والأسس التي أرسيت لبناء الدولة الحديثة في الفترة الانتقالية.
وكان لافتاً أن القوى الحية في الدولة المصرية وتونس وقفت بالمرصاد للإخوان المسلمين ومشروعهم الهلامي لتسنم السلطة إلى الأبد، وأذعنت حركة النهضة في تونس إلى الإرادة الشعبية التي عبرت عنها قوى المجتمع المدني الحديث، لتعود إلى حجمها الطبيعي مجرد تيار سياسي وسط تيارات وقوى سياسية ومجتمعية أخرى، ولا تملك الحق في إقصاء الآخرين أو تغييبهم، أو فرض مشروعها الخاص لاختطاف الدولة وتغيير هوية المجتمع. وفي المقابل لم يستسلم الإخوان في مصر وقرروا اعلان الحرب على الدولة والشعب، ولجؤوا إلى العنف والإرهاب والتخريب المادي والاقتصادي، وبرغم أن هذه التحركات تمثل فرفرة مذبوح، فإنها ساهمت أكثر وأكثر في ابتعاد الجماعة عن الضمير الشعبي، وأصبحت مجرد جماعة إرهابية منبوذة وملاحقة.
الأوضاع التي تولدت بعد الربيع العربي أسهمت في صعود جماعات ظلامية وإرهابية طمعت بشدة في أن تحل محل الدولة العصرية، أياً كانت الخسائر المترتبة على ذلك. ومثل هذه الجماعات الإرهابية والأحزاب والتنظيمات الإيديولوجية المغلقة الأفق المحدودة النظر، والتي لا تملك - حقيقة - مشروعاً واقعياً ومستقبلياً، إنما تمثل ارتداداً عن المسيرة الوطنية، وصعودها يمثل خسارة لا تعوض عن كل المكتسبات الوطنية التي حققتها دولة الاستقلال، وتدميراً صاعقاً ووحشياً لأركان وأسس الدولة المدنية الحديثة ومنجزات الحضارة الإنسانية.
من الظواهر الشاذة التي بزغت بعد الربيع العربي، محاولات سرقة الدولة وتحويلها إلى مزرعة طائفية أو إيديولوجية أحادية التوجه مضادة لمفهوم الدولة نفسه وللحضارة، ومتنكرة للواقع ومخاصمة للمستقبل، من هذه الظواهر العملقة الإخوانية الزائفة، وظهور تتار العصر الحديث من تنظيم «داعش» وأشباهه في العراق وسوريا وليبيا ودول أخرى عربية وغير عربية، والميليشيات الطائفية الموالية لإيران في العراق واليمن.
وقد تسبب صعود هذه التنظيمات الشاذة في خلخلة المجتمعات المدنية في الدولة، مع ما تسببت فيه من حركة نزوح سكاني واسع، فضلاً عن أن التنظيمات والأحزاب التي انقلبت على الشرعية، وسطت على الحكم بقوة السلاح ألغت الدولة بمفهومها الحديث، وجرفت أسسها وقواعدها، ونهبت مواردها وتحولت بأساليب الترويع والوحشية التي تتبعها إلى اكتساب عداء الشعب.
ويبقى الدرس المستفاد أن سقوط الدولة يعني الفوضى، ولتجنب هذا المصير، المطلوب نظام ديمقراطي حقيقي يقوم على التداول السلمي للسلطة، التعددية التي تتنافس الأحزاب السياسية فيها عبر برامج واقعية تحترم النظام الديمقراطي نفسه، ولا مكان في هذا النظام للأحزاب العقائدية غير السياسية والميليشياوية، وإعلاء ثقافة المجتمع المدني، والدستور القوي الذي يمنع إفراغ النظام السياسي من محتواه المدني، ويقيم المؤسسات التي يحتكم إليها الجميع في إطار القانون الأساسي للدولة.
إن الدولة المدنية الحديثة الديمقراطية، القائمة على المؤسسات الحقة تكفل الحقوق للجميع، وتسهم في ترقية التطور الحضاري والترقي الاجتماعي والتقدم الاقتصادي، بالقيم المدنية والعدالة الاجتماعية والتعليم والعلم والتكنولوجيا، وتحقيق الرفاهية للشعب وخدمته ومستقبله.

833 مليار دولار إجمالي الخسائر

تكبدت دول «الخريف العربي» خسائر فادحة بشرية واجتماعية واقتصادية؛ عقب «الاحتجاجات»، التي اندلعت في ست دول عربية.
«المنتدى الاستراتيجي العربي» قدر الثمن الاقتصادي، الذي دفعته شعوب «الربيع العربي» ب833.7 مليار دولار.
الخسائر بحساب الناتج المحلي الإجمالي 6%

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"