عادي
رحلة في مساء الإمارة الباسمة

الشارقة .. مدينة النور

04:32 صباحا
قراءة 7 دقائق
أمل سرور

حين يسكن الليل، تختبئ الأحلام في ثوب السكون.. حين يسعى البدر، وترصد عيونه الأيام، يطول السهر على أرض الشارقة، وبين حنايا أركانها تتساءل النجوم عن أخبارها. عبر صفحات بحيرتها الخالدة في ليل يحمل النسمات، لا تملك إلا أن تسبح في دنيا تتراءى لعيونك، لتنصت جيداً إلى قصتها التي سطرتها باقتدار.
ليل تلك الإمارة الباسمة التي تتثنى بحدودها على ساحل الخليج العربي وخليج عمان، لتعزف سيمفونية التناغم والتمازج ما بين أجوائها الاجتماعية وعناصرها الثقافية والترفيهية، لتضرب مثلاً فريداً في الحفاظ علي تراثها القديم. هي الشارقة تلك التحفة الربانية المنقوشة باقتدار، تصحبنا في رحلة نورانية عبر ليلها المتفرد، نسافر فيها عبر الزمن، نحلق عالياً لنلمس أضواء المستقبل التي تشق الظلمة، لنتخطى أسوار خيالنا فتدب فينا روح الإبداع.
أجواء ليلية ساحرة نرصدها ونتأملها عبر شوارع وميادين عاصمة الثقافة الإسلامية والسياحة والصحافة العربية، لننقل صورة مضيئة للشارقة..
من أين نبدأ وكيف تكون نقطة الانطلاق؟ سؤال طاردني طوال الإعداد لتلك الرحلة الثقافية الحضارية والترفيهية، في قلب عاصمة الثقافة الإسلامية والسياحة العربية التي تزداد نوراً وتتلألأ معالمها بالأضواء ليلاً ليغمرها بحر من الألوان. وسرعان ما كان القرار بالانطلاق من عند «بحيرة خالد» عبر رحلة التاريخ، لنسير على خطى الأجداد، ومن نافورة المجاز نحلّق ونتمايل مع النغمات، وبالعبرات ننتقل لنرسم الألوان على صفحات المياه.
أطلق لقدمي العنان من عند المسرح والصرح والقصر والنور، تلك التي تروي الشعر لمن تشبث بالمجاز معلنة أن عناقيد الضياء شاهدة على التاريخ الأصيل لها. أتأمل مياهها التي تلمع تحت ضوء القمر، لتنعكس على صفحتها ما تحتضنه من أسرار وذكريات لمن تحملهم على أرضها من مختلف الجنسيات. ألتقط الأنفاس على «المقهى الشعبي» الذي يلتف حوله الجميع، وألقي بنفسي مع الكثيرين على أعمدة الخيزران والحشائش الخضراء لنحتسي معاً أكواب «الكَرَك» والحليب والزنجبيل التي تختلط بالنسمة والضحكة والذكرى مع مياهها.
أمام كل هذا الهدوء والجمال والسكينة التي تسير عليها المياه في الليل، الذي يحمل إلينا نسمات باردة في صيف ساخن، يعجز القلم عن وصف «بحيرة خالد» التي نجحت في أن تكون متنفساً لكل الفئات الاجتماعية. أنت هناك تستطيع أن تنفق درهماً وتستمتع، وتستطيع أن تنفق بدءاً من 100 درهم وتستمتع. أتأمل تلك المساحة الهائلة التي تقترب من 172 هكتاراً وهي مساحة «بحيرة خالد»، فتشدني تلك المسطحات الخضراء التي تميزت بإناراتها ليلاً، والتي جذبت بجدارة مئات البشر الذين التفوا حولها بعائلاتهم لقضاء سهرة ليلية فريدة من نوعها.

هواء طلق

تجلس منى العجرودي، على أحد المقاعد المنتشرة أمام حديقة المجاز لتراقب صغارها وهم يلعبون في المنطقة المخصصة لهم. أقترب منها لأسألها عن ترددها على هذا المكان مساءً، لتجيبني: «بحيرة الشارقة تمثل الكثير بالنسبة لي فهي المكان الذي أجد نفسي فيه، وغالباً ما أقضي معظم عطلاتي على ضفافها، ولأن جو الصيف ساخن ولا يسمح لنا بالخروج نهاراً، فأخرج مع أطفالي مساء، والحقيقة أن المكان رائع في ذلك التوقيت، وعلى ضفاف البحيرة نجد كل ما تشتهيه أنفسنا، ثم إن المشي على كورنيش الشارقة مساءً يوفر لنا ممارسة رياضتنا المفضلة وأيضاً فرصة للترويح عن أنفسنا في الهواء الطلق».

ليل النوافير

أخطو خطواتي الأولى في قلب تلك الواجهة المائية التي تتميّز بموقعها الاستراتيجي، على بحيرة خالد الخلابة لتصبح إحدى الوجهات السياحية والترفيهية الرائدة في الشارقة، تقودني قدمي عبر مسطحاتها الخضراء الكثيفة وأشق الطريق عبر ممراتها وبشرها لأكون من أوائل المنتظرين الواقفين للحاق بالعرض العبقري الذي تؤديه بالأضواء والأصوات نافورة الشارقة العالمية، تلك التي تقدم عروضاً موسيقية وسينمائية هي الأولى من نوعها في المنطقة.
ها هي تنطلق بأضوائها، تتمايل مياهها يميناً ويساراً، تعلو فترتفع معها عيناي إلى السماء، أي رهبة يمكن أن يصفها القلم تخترق جسدك لتجد روحك هائمة على مياه البحيرة، وكيف لا يتسرب إليك هذا الشعور وأنت تقف أمام واحدة من أكبر النوافير في الخليج، تطلق بها المياه بارتفاع يحلق على مسافة 100 متر في الهواء.
هكذا تحكي المياه التاريخ بلغة بسيطة وشائقة وممتعة يستطيع حتى الصغار أن يفهموها، هناك وعلى أنغام الموسيقى العالمية الراقية تجد المغفور له بإذن الله تعالى الشيخ زايد بن نهيان وقد تجسدت صورته التي أجادت إتقانها تقنيات الليزر، وإلى جانبه صاحب السمو الشيخ الدكتور سلطان بن محمد القاسمي، عضو المجلس الأعلى حاكم الشارقة، وصوت الرواة عالياً يسرد ويحكي قصة كفاح شعب. تأملت كما يتأمل الآخرون، وسادت حالة من الصمت المدوي الذي لم يكن يقطعه سوى آهات الانبهار والإعجاب بما تراه الأعين. انتهى العرض ولم تنته معه أوقات الاستمتاع، فالمقاهي لم تكن تستطع استيعاب أعداد البشر التي راحت في حالة من الهدوء والسكينة أمام أمواج بحيرة خالد المتهادية.

الأسرة العربية

على أحد المقاهي المطلة على نافورة المجاز العالمية، يجلس عبدالله الطل مع أسرته وأطفاله الذين رفضوا أن ينتقلوا إلى مكان آخر، إذ ينتظرون العرض الثاني للنافورة الذي سيبدأ بعد دقائق معدودة. سألته عن سر اختياره لهذا المكان للتنزه، يقول: «أطفالي لا يفضلون مكاناً آخر لقضاء أوقات مرحهم إلاّ في هذا المكان، وهم يطالبونني بالمجيء هنا كل أسبوع، لدرجة أنني في كثير من الأحيان لا تكن لدي رغبة في الخروج يوم العطلة، لأنه اليوم الوحيد الذي أرتاح فيه من الدوام، ولكن مع إصرارهم لا أملك إلاّ الموافقة. والحقيقة أن كورنيش البحيرة يعتبر من الأماكن المناسبة والمؤهلة لقضاء أوقات مرحة، خصوصاً في الليل الذي تتمتع به الشارقة، فهو بالتأكيد ليل مختلف بكل المقاييس في حديقة المجاز، ومجرد جلوسنا على المقاهي المنتشرة بطول البحيرة أو ممارسة المشي، كل هذا في حد ذاته يعتبر ترويحاً وترفيهاً، والحقيقة أيضاً أن إمارة الشارقة كلها صالحة ومناسبة تماماً لاستقرار الأسرة العربية فيها، وليلها عائلي ينجح في أن يجعلنا نقضي أوقاتاً ترفيهية مناسبة من الطراز الأول».

رحلة المساء

قبل أن أغادر واجهة المجاز المائية، كان يجب أن أذهب في رحلة هادئة عبقرية لألتقط أنفاسي بعد تلك الجولة الطويلة الشيقة في المكان، لم أنس أن أمتطي قارب العبرة التراثية القديمة التي ما زالت الإمارة الباسمة تحتفظ بها كجزء أصيل من ثقافتها وتراثها. تلك القوارب القديمة التقليدية في منطقة الشرق الأوسط التي كانت من أهم وسائل تنقل الأجداد في الماضي البعيد، هكذا جعلت منها عاصمة الثقافة والسياحة وسيلة لكل مرتادي «بحيرة خالد» للاستمتاع بمنطقة الكورنيش من خلال رحلة بحرية نستطيع من خلالها أن نطل إطلالة فريدة على أفق المدينة ومعالم الجذب الثقافية والاسترخاء تحت أضواء النجوم في رحلة المساء مع العائلة والأصدقاء.

عبرات فينيسيا

من حديقة المجاز إلى «فينيسيا» الإمارة الباسمة وشريانها الحي، أهرول لأقف وجهاً لوجه أمام قناة القصباء. تلك الوحيدة القادرة على أن تساعدك في أن تغسل همومك وتلقى بذكرياتك وحنينك، عندما تقرر خوض غمار جولة بحرية ليلية عبر عبراتها وقواربها الخشبية التي تشق مياهها لتنتقل معها إلى عالم من الهدوء والدهشة.
سرعان ما ولّيت وجهي إلى مياهها وسرعان ما وجدتني على متن أحد تلك القوارب الخشبية التي تعود معها إلى سنوات طويلة إلى الوراء. هكذا بدأ يشق قاربنا الخشبي الذي يسير في القناة المائية التي يصل عمقها إلى 5 أمتار وعرضها 30 متراً وطولها 1000 متر، ليصحبنا مع آخرين في جولة مائية حول بحيرة الخان وقناة القصباء.
جلناز ديدوفني، كانت تجلس في حالة لا تحسد عليها من الاسترخاء بصحبة زوجها الذي راح يرصد منذ بداية تحرك القارب، كل اللحظات التي تمر عليهما بكاميرا هاتفه، وراحت زوجته في حالة من الاستسلام لتلك النسمات الرقيقة التي يحملها معه ليل الإمارة الباسمة. وسط مياه القناة اقتحمت صمتها لأعرف انطباعاتها عن تلك التجربة. تقول: «أهوى الأجواء التراثية القديمة، وأتعلق بكل ما يخص التاريخ في البلدان العربية، لذا لم يكن ممكناً على الإطلاق أن أذهب في رحلة سياحية إلى منطقة الخليج العربي من دون أن أزور عاصمة الثقافة الإسلامية، وشدتني تلك المنطقة وأعجبت كثيراً بفكرة تلك القوارب الصغيرة التي تصحبنا في رحلة مع أجواء الليل الساهرة والممتعة في الشارقة التي شعرت بأنها أعادتني إلى الوراء أزماناً كم تمنيت أن أعيشها».
روجينيو دامانوف، زوجها الذي أنتزعه من وراء عدسته الصغيرة، ليتحدث إليّ مسرعاً حتى لا تفوته لحظة، يقول: «هذه النوعية من الرحلات الليلية تتيح الفرصة للزوار للقيام بجولة لطيفة يشاهدون من خلالها المناظر الخلابة لقناة تحوي كل هذا الثراء، خصوصاً لما تتضمنه من حولها من أماكن تثقيفية، وأهم ما لفت نظري هو ما تتميز به أسعار التذاكر التي تعتبر رمزية بل ومناسبة للجميع».
جولة ليلية هادئة ختامها مسك. توقفت لأتأمل مساجد شارقة النور، تلك التي تتناغم أضواؤها مع معمارها الفريد من نوعه، لتعانق المآذن والقباب وتطبعُ قُبلاً على النوافذ والأبواب فترسم صوراً للجمال وكأنها آية من الكتاب. نور يسر الناظرين، يبعث في القلب بهجة وفي الروح حنيناً، كحديقة تزينت بورود مختلف ألوانها، كحبات لؤلؤ تناثرت فملأ بريقها المكان، ككويكبات تسلل شعاع نورها ليشق الظلمات وتطمئن الأبدان.
أقف أمام «مسجد النور» تلك التحفة المعمارية الرائعة التي بنيت على الطراز العثماني، أقف أمام قبته الضخمة التي تعلو القاعة الرئيسية للصلاة لأشهد تلك المجموعة من القباب الصغيرة والمتوسطة والكبيرة التي تحتضنه، تخطف روحك الأضواء التي امتزجت مع تلك الزخارف الهندسية المبدعة، فلا تملك إلا الصمت والتأمل والاستسلام لتلك الحالة الروحانية التي تقتحم صدرك دون استئذان. تضبط نفسك في نهاية جولتك الليلية متلبساً بحالة من الإلهام والود والتراحم والتسامح، لتفيض روحك هياماً بليل الشارقة.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"