عادي

التنميط الفكري

04:18 صباحا
قراءة دقيقتين
محمدو لحبيب

من يتتبع ما يُكتب على مواقع التواصل الاجتماعي قد يلاحظ أننا إزاء مشكلة حقيقية مع كل هذا الضخ الذي يواجهنا في تلك المواقع، فمن يتتبع معظم الأفكار المعبر عنها حول أية قضية مما يشغل الناس يوميًا في تلك المواقع، سيصرخ في ملل: يا إلهي لكأنني أواجه نفس الآراء والأفكار التي يُعَبر عنها مرات عديدة، وبنفس الصيغة في التلفزيون وبرامجه وتحليلاته.
لا تقتصر تلك المشكلة في مجال الإبداع الأدبي من قصة أو شعر أو نثر شعري أو مختلف ضروب الأدب، ولا تقتصر فقط على ما ينتج عنها من الاستسهال للكتابة كفعل إبداعي، وتحولها على تلك المواقع «التواصلية» إلى ما يشبه الخوض في بركة سباحة ضحلة العمق، بل تذهب إلى ما هو أعمق، إلى نمط الفكرة والتعبير عنها، سواء على المستوى الإبداعي بكل ترميزاته، أوعلى مستوى التعبير العادي المباشر.
إن تلك المواقع كرست عندنا في العالم العربي ظاهرة غريبة، لا أدري بالضبط ما إذا كانت خاصة بنا أم لا: وهي غياب أو تغييب العقل الفاحص الناقد، لصالح اجترار الأفكار، وتقديمها دون كلل وبنفس الطريقة، حتى وإن اختلفت بعض العبارات أحيانا، فالسياق العام هو هو، مجرد تكرار.
لقد تناول الفيلسوف الفرنسي جان بودريار تأثير التلفزيون في عصر لم تكن فيه مواقع التواصل الاجتماعي موجودة، فركز على ما يصنعه بنا وبتكويننا الثقافي هذا الكائن المزدحم بآلاف الصور، وكيف أنه يقتل فينا روح الإبداع التي يتطلبها إنتاج رمزياتنا الثقافية، ورأينا المستقل، ليحولنا بمرور الوقت إلى كائنات نمطية، محكومة - دون وعي - بآراء آخرين نرددها ونحن نزعم و نثق أنها آراؤنا.
ورغم أن كثيرا من الباحثين في سسيولوجيا الإعلام يقررون أن مواقع التواصل تلك جاءت لتحرر الشخص من تأثير التلفزيون، ولتجعله قادرا على بناء رأيه الشخصي والتعبير عنه بحرية واستقلالية، إلا أن ما يحدث عندنا لا يعكس ذلك في الغالب.
هل نحن مختلفون عن بقية الناس في هذا العالم؟، هل يعود هذا التأثير السلبي على عملية تشكيل الرأي المستقل عندنا إلى إشكاليات مرتبطة بمستويات التعليم العام عندنا؟ وبمحدودية تلك المستويات بالنسبة لكثير من رواد مواقع التواصل؟ أم أن في الأمر أبعاداً ذهنية ثقافية تجعل من التعبير عن الفكر الخاص المستقل لأي شخص منا، مهمة خطيرة لا يمكن لنا أن نتحمل مسؤوليتها، ومن ثم نلجأ إلى تبني آراء الآخرين من النخبة بوصفهم «خبراء»، وترديدها وكأنها آراء لا تقبل الشك ولا الدحض؟ على كل حال هي ظاهرة تتطلب التساؤل والبحث والنقاش، لأنها إن استمرت فقد تجعل من هذه الطفرة التواصلية التي يستفيد منها معظم العالم مجرد تنميط عندنا لا يقدم إن لم يؤخر.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"