عادي
المال في الاستحقاقات نقيصة وآفة منذ ولادتها

الانتخابات في لبنان.. سوق مزايدة يربح من يدفع أكثر

05:01 صباحا
قراءة 4 دقائق
بعد أفول نجم الحكم العثماني، وما جر على البلاد من ظلم وجوع أبادا عشرات الآلاف، أطل الانتداب الفرنسي مستبقيا هذه النقيصة، وإن تبدل الأبطال، إذ نشط الأثرياء الجدد الذين امتلأت خزائنهم بالمال الحرام والمشبوه، فبذلوه بسخاء لاسترضاء الحاكمين لمساعدتهم في الانتخابات النيابية بدءا من دخول اللوائح القوية، وليس انتهاء بتسخيرهم للضغط على وجهاء العائلات والمتنفذين المحليين لكي تصب الأصوات التي يعولون عليها لصالحهم. وكان يطلق على هؤلاء الوجهاء والمتنفذين لقب «المفاتيح» ويتقدمهم الكهنة والمشايخ والأئمة ورؤساء البلدية والمخاتير وذوي المكانة في عائلاتهم ومجتمعهم.
فمنذ عشرينيات القرن المنصرم كان المرشحون يدفعون للناخبين مباشرة، وكان المال النقدي «cash money» يصلهم مباشرة، وأحيانا عبر وسطاء يقتطعون من الراشي والمرتشي في آن. قليلون هم سياسيو تلك الحقبة الذين لم يعتمدوا هذه الطريقة، معطوفة على الضغط والتهديد الذي يطاول مصادر عيش الموظفين وأصحاب الحاجة. ولعل انتخابات مايو/أيار 1947، في عهد الرئيس بشارة الخوري التي ضُرب المثل في فسادها، لما شابها من تزوير، ورشى، كانت حجر الزاوية الذي تم البناء عليه لإسقاط العهد الاستقلالي الأول.
ما من أحد من المتمولين لم يلجأ إلى المال والخدمات.. نتعب من العد.. وما من رئيس للجمهورية أو رئيس مجلس نيابي أو حكومة أو حزب إلا أدخلوا في لوائحهم شخصيات مثقلة ب«الأصفر الرنان» وتفتقر إلى الأصوات. يومها كان الصوت صوتا عاديا في لائحة معرضة للتشطيب، ما كان يُسهّل على الناخب أن«يقبض» من عدة مرشحين. لم يكن هناك صوت تفضيلي ولا من يحزنون. كان الناخب «يتسلى، ويتحلى ويملأ الجيب». اشتهر من «دفيعة» ذلك الزمن: هنري فرعون، يوسف سالم، عبود عبد الرزاق، جوزف إلياس طعمه سكاف، أنطون الصحناوي (جد أنطون الحالي الذي يدفع اليوم المبالغ الطائلة لدعم لائحة نسيبه الوزير ميشال فرعون في دائرة بيروت الأولى، ومن باب ترطيب الذاكرة فهو قريب هنري فرعون ونجل بيار الذي لم يبخل في البذل سعيا وراء مقعد وزاري أو نيابي).
وكذلك هناك موريس زوين (والد النائب جيلبيرت التي أنفقت ثروة مادية وعقارية طائلة للظفر بالنيابة)، وجورج كرم الاقتصادي المعروف، وكان من كبار تجار الخشب في لبنان والمنطقة وقيل عنه إنه كان لا يقوم بأي جهد، بل كان يترك للسماسرة و«المفاتيح» أن يتولوا حشد المؤيدين مدفوعي الثمن.
ولا ننسى مال أفريقيا الذي أنفقه مغتربون لحجز مقاعد لهم في «البرلمان» أمثال علي عرب ويوسف حمود(جو) وجبران طوق. كما كانت «لوبيات» من تجار بيروت وطرابلس تسخو بمبالغ كبيرة لدعم صائب سلام وعبد الحميد كرامي. وكانت زعامات لبنانية تبيع مساحات من أملاكها الشاسعة لتنفق على معاركها الانتخابية أمثال أحمد الأسعد، آل الزين في النبطية، عسيران في الزهراني وصيدا، آل الخليل في صور، رياض وسامي الصلح في صيدا وبيروت، آل حمادة وحيدر في بعلبك -الهرمل، آل الخازن في كسروان- الفتوح، آل العلي (المرعبي) في عكار.
أما أحزاب الزمن الغابر، فكانت تتكل على تبرعات محازبيها. «الكتائب» كانت تنشئ صندوقا خاصا يساهم فيه رجال أعمال من لبنان والاغتراب، «الحزب السوري القومي الاجتماعي» كانت تغذي صندوقه تبرعات سخية من مغتربيه في القارة السمراء وأمريكا اللاتينية. «الحزب التقدمي الاشتراكي» كان يرشح على لوائحه أثرياء كباراً أمثال سالم وخليل عبد النور ونجيب صالحه. وما أشبه اليوم بالبارحة، فهناك النائب نعمه طعمه، ومن قبل نبيل البستاني. في حين أن «حزب الوطنيين الأحرار» لم يُعدم من داعمين من مختلف المذاهب، ومنهم بطرس الخوري الذي كان يوزع دعمه بين هذا الحزب والرئيس رشيد كرامي وآل فرنجيه.
هذه العجالة أضاءت على واقع الانتخابات في لبنان منذ عهد المتصرفية مرورا بالانتداب الفرنسي وصولا إلى العهد الاستقلالي. أما في مرحلة ما بعد الطائف، فقد تبدلت الصورة، وكذلك الأساليب. فقد تمأسس المال الانتخابي، وخاض «حيتانه» المعترك. وبعدما كانت الرشوة تدفع للناخب على «عينك يا تاجر» أو في الخفاء، أصبحت تدفع حاليا في صورة منتظمة وبأشكال شتى، لتكوين احتياطي انتخابي دائم، وذلك من خلال مؤسسات اجتماعية -خيرية أنشئت خصيصا لهذا الغرض، كأن تقوم بتغطية الأقساط المدرسية المتأخرة عن الطلاب المتعثرين ماديا، وتوفير النقل لهؤلاء من منازلهم إلى جامعاتهم ومدارسهم وبالعكس، والإسهام بنسب عالية في فاتورة الدواء والاستشفاء، وفي المنح الجامعية، وتوزيع الحصص الغذائية في الأعياد.
ولا يقتصر الأمر على ذلك، بل تنظم استمارة بكل مستفيد وتتم متابعته للمشاركة في كل الاستحقاقات، وتذكيره بين وقت وآخر بما ينعم به.. أما «الزفت» الانتخابي، فحدث ولا حرج.«كل صوت بنقلة زفت» ولعل أبرز من يمثل هذه الظاهرة، هم مرشحو «المردة» في الشمال، فريد هيكل الخازن في كسروان -الفتوح -جبيل، إبراهيم عازار في دائرة صيدا-جزين. وقد فات المواطنون، أن هذا «الزفت» مدفوع سلفا من جيوبهم كمكلفين يدفعون الضرائب والرسوم لتعزيز خزانة الدولة وهو حق لهم!!
ثمة أمر آخر، وهو أن العديد من «الماكينات» الانتخابية في الكثير من المناطق قد حجزت آلاف تذاكر السفر للبنانيين في الخارج مع ثلاثة أيام إقامة، لكي ينتخبوا في لبنان بعدما فاتهم أن يتسجلوا في القنصليات اللبنانية في البلدان التي يقيمون فيها. ومع ذلك كله، فإن «الكاش» حاضر، وإن ثمة مرشحين على استعداد لدفع ثمن مرتفع للصوت التفضيلي في صراع «قابيل وهابيل» ضمن اللائحة الواحدة.
إن استخدام المال عادة قديمة متأصلة في لبنان، ما كانت لتستشري على هذا النحو لو أن الدولة تقوم بواجباتها تجاه مواطنيها، فتغنيهم عن تسول الخدمات، وطلب المال. ولو أن النواب يؤدون دورهم التشريعي، فيثق اللبنانيون بجدواهم وينتخبونهم بالتركيز على كفايتهم، وليس على خدماتهم المتفرقة، وقدرتهم على إسدائها ولو على حساب القانون في أحيان كثيرة. إن الانتخابات في لبنان ليست فقط عرساً ديمقراطياً يجدد فيه المواطن النخب السياسية، واختيار الأصلح لمستقبل بلاده، إنما باتت أيضاً للأسف موسماً لاستدراج عروض، وسوق مزايدة يكسب فيها من يدفع أكثر(!!!)
التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"