عادي
معلمو العالم تأثر بهم الكثير من المفكرين والأدباء

ابن اياس.. مؤرخ نهاية دولة المماليك

03:02 صباحا
قراءة 7 دقائق
إعداد: محمد إسماعيل زاهر

«ولم يقاس أهل مصر شدة مثل هذه قط، إلا ما كان في زمن بختنصر البابلي، لما أتى من بابل وزحف على البلاد وخربها، وهدم بيت المقدس. ثم دخل مصر وخربها عن آخرها، وقتل من أهلها مئة ألف ألف إنسان، حتى أقامت مصر أربعين سنة وهي خراب، ليس بها ديار ولا نافخ نار..ثم وقع مثل ذلك في بغداد في فتنة هولاكو، لما زحف على بغداد وخربها وأحرق بيوتها، وقتل الخليفة المستعصم بالله، فوقع لأهل مصر ما يقرب من ذلك، وما زالت الأيام تبدي العجائب»، هذا الكلام للمؤرخ ابن اياس في كتابه الأشهر«بدائع الزهور في وقائع الدهور»، ويعتبر الوحيد من بين أبناء جيل من المؤرخين العظام في تلك الفترة الذي شاهد وقائع سقوط دولة المماليك.
يكتب ابن اياس تاريخه بالطريقة الحولية للأحداث، أي متابعتها عاما، تلو الآخر، وكتابه يقع في 5 أو 6 مجلدات حسب الطبعة، وظل يدونه على مدار ما يقرب من ثلاثة عقود، من 901 إلى 928 ه، وتوفي بعد الانتهاء منه بعامين، ولد ابن اياس، زين العابدين محمد بن أحمد بن شهاب الدين المعروف بابن اياس الحنفي في عام 855 ه، أي انه بدأ يكتب تاريخه الأشهر، الذي سيعتمد عليه مؤرخون آخرون وأدباء ومفكرون..الخ، وهو يقترب من الخمسين من العمر، ويقال إن سبب بداية تدوينه للأحداث وفاة السلطان قايتباي في عام 901 ه، وهو من أهم سلاطين دولة المماليك و حكم ما يقرب من ثلاثة عقود، استقرت فيها الدولة ثم بدأت تدخل في مرحلة التدهور ولم تستطع أن تصمد عدة عقود أخرى ثم سقطت.
ينقسم«بدائع الزهور» إلى ثلاثة أقسام كبيرة، الأول ينقل فيه عن آخرين، عن تاريخ مصر القديم السابق له والثاني يشعرك أنك أمام معاين للأحداث ومتابع للوقائع، ويبدأ هذا الجزء من سلطنة قايتباي في عام 872، وحتى وقائع عام 906 يشترك ابن اياس مع مؤرخي عصره في رصد الأحداث والتي تجدها لدى أستاذه أبو المحاسن بن تغري بردي في«النجوم الزاهرة»، ولدى القاضي المؤرخ علي بن داود الصيرفي في «نزهة النفوس»، و لدى السخاوي وهو يسرد سير أعلام عصره في القرن التاسع الهجري في«التبر المسبوك»، وحتى العالم والفقيه والمفسر السيوطي في«حسن المحاضرة في أخبار مصر والقاهرة»، هؤلاء توفوا تباعا: ابن تغري بردي 874، الصيرفي 900، السخاوي 902، والسيوطي 911، وظل ابن اياس يؤرخ لمصر منفردا في القسم الثالث من الكتاب للوقائع بين عامي 921 وحتى 928 ه، ومن هنا تأتي أهمية ابن اياس الحنفي.
في القسم الأول من الكتاب يتحدث ابن اياس عن مدن مصر وفضائلها وفتح العرب لها ثم دخول أهلها في الإسلام، وتاريخ المسلمين إلى الدولة المملوكية قبل عصر السلطان قايتباي، ويلخص بمهارة روايات الطبري وابن الأثير وغيرهما، وهناك من الباحثين من يتوقف عند هذا الجزء ليشير إلى ثقافة ابن اياس الموسوعية واطلاعه على كتب الثعالبي وابن كثير والمسعودي وابن الجوزي والمقريزي..الخ، وهنا نشعر بمتعة مع المؤرخ والحكماء، حيث يزداد جانب الأديب الذي يقول عن التاريخ: «التاريخ يصلح لمسامرة الجليس»، ثم نجد الضبط والصرامة في القسم الثاني، وفي القسم الخاص بسقوط الدولة المملوكية يشعرنا ابن اياس بعجز وإحباط كل من عاصر لحظات التحول التاريخي. ينتمي ابن اياس إلى أسرة مملوكية شركسية، جده الأكبر الأمير عز الدين العمري تقلد مناصب عدة أهمها أمير السلاح، وتولى نيابة حلب ونيابة طرابلس ونيابة صفد، أما ابنه الفخري اياس فتولى مناصب مهمة في عصر السلطان الناصر بن برقوق، أما والده شهاب الدين أحمد فقد كان من مشاهير«أولاد الناس»، تعبير يقصد به الأبناء الأحرار للأمراء المماليك الذين ينتظمون في سلك الجندية مقابل أن تمنحهم الدولة إقطاعات زراعية، ولذلك ورث مؤرخنا عن أبيه أراضي زراعية وفرت له دخلا كبيرا جعلته يتفرغ للتأليف والكتابة، حيث لم يتزوج، وتفرغ لحضور مجالس العلم والأدب والثقافة في عصره، وخاصة مجلس أستاذه الشيخ السيوطي، وفي عام 914 ه، يصادر السلطان قانصوه الغوري كل الإقطاعات الممنوحة لأولاد الناس ويعطيها للمماليك، ومنها أرض ابن اياس، والذي استطاع بعد فترة أن يقابل السلطان ويقنعه باسترداد أرضه.

لحظات معبرة

وربما هذا ما جعله محايدا وهو يؤرخ لهذا السلطان وأحيانا متحاملا عليه، بعكس خلفه السلطان طومان باي الذي انكسر أمام العثمانيين في موقعة الريدانية، وفر إلى داخل البلاد وقاد التمرد لفترة قصيرة حتى اعدمه العثمانيون على باب زويلة بعد ذلك. يقول عن طومان باي الذي يرصد سيرته كأنه «علي الزيبق» لم ينهزم إلا لتعرضه للخيانة:«فلما شنق وطلعت روحه، صرخت الناس عليه صرخة عظيمة، وكثر عليه الحزن والأسف، فإنه كان شابا حسن الشكل، كريم الأخلاق، سنه نحو أربع وأربعين سنة، وكان شجاعا بطلا، تصدى لقتال ابن عثمان، وثبت وقت الحرب بنفسه، وفتك في عسكر ابن عثمان، وقتل منهم ما لا يحصى، وكثرهم ثلاث مرات، وهو في نفر قليل من عسكره، ووقع منه في الحرب أمور لم تقع من الأبطال».
يصف ابن اياس لحظة دخول السلطان سليم الأول إلى القاهرة قائلا:«ودخل إلى القاهرة من باب النصر وشق المدينة في موكب حافل، وقدامه الجنائب المسومة الكثيرة العدد، والعساكر التراكمة ما بين مشاة وركاب من كل جانب حتى ضاقت بهم الشوارع...وكان ينادي كل يوم في القاهرة بالأمان والاطمئنان، والنهب عمال من جماعته، وحصل للناس من ذلك الضرر الشامل»، ولا تخلو صفحة من تأريخ ابن اياس لوقائع الدخول العثماني إلى مصر من إدانة واضحة، يقول نقلا عن بعض المقربين من سليم الثالث:«اذا دخلت مصر أحرق بيوتها قاطبة، والعب في أهلها بالسيف...ولو فعل ذلك ما كان يجد له من مانع يمنعه، ولكن الله سلم، والله غالب على أمره».
تجد كذلك في كتب التاريخ المعاصرة ذلك الوصف الذي يقدمه العديدون للخيرات التي أخذها العثمانيون من مصر، وهو ما يتكرر في أكثر من مكان لدى ابن اياس:«فانفتحت للعثمانية كنوز الأرض بمصر من نهب فاش وسلاح وخيول وبغال وجوار وعبيد وغير ذلك من كل شيء جليل، وظفروا بأشياء لم يظفروا بها قط في بلادهم، ولم يروها قبل ذلك»، من ذلك مثلا خيمة كبيرة كان المماليك ينصبونها في الحوش السلطاني في ليلة المولد النبوي الشريف:«وكانت هذه الخيمة من جملة عجائب الدنيا لم يعمل مثلها قط، قيل إن مصروفها على الأشرف قايتباي ثلاثون ألف دينار، وقيل أكثر من ذلك، وكانت غاية في التجمل حين تنصب ليلة المولد الشريف، وكانت كهيئة قاعة.. وكانت فيها صنائع لا يعمل الآن مثلها قط، وكانت إذا نصبت أيام المولد يحضرون بجماعة نحو خمسمئة إنسان حتى ينصبوها في الحوش السلطاني..فابتيعت بأبخس الأثمان، ولم يعرف ابن عثمان قيمتها، وهذه من جملة مساويه في مصر».

كتب ابن اياس الشعر كذلك، وحاول في قصيدة طويلة ضمنها في كتابه أن يعبر شعرا عن انهيار المماليك وانكسارهم أمام العثمانيين:

نوحوا على مصر لأمر قد جرى

                     من حادث عمت مصيبته الورى

الله أكبر إنها لمصيبة

                       وقعت بمصر ما لها مثل يرى

ولقد وقفت على تواريخ مضت

                    لم يذكروا فيها بأعجب ما جرى

لهفي على عيش بمصر قد خلت

                              أيامه كالحلم ولى مدبرا

فضاء ممتد

ولا ينسى أن ينظم شعراً أيضاً الكثير من الأحداث المتعلقة بالسلب والنهب الذي تم للكنوز الفنية التي تعود إلى الدولة المملوكية، ويحلل بمشرط المؤرخ الاجتماعي المآسي التي حلت بالقاهرة من جراء أفعال الجنود العثمانيين، وتغير الأخلاق بين أبناء البلد أنفسهم، وهناك الكثير من الصور المعبرة التي يوردها عن ارتفاع الأسعار وحالة الفوضى التي عمت البلاد ووقوع البسطاء بين فكي المماليك الذين حاولوا التخفي هربا من الجيش العثماني وجنود هذا الجيش نفسه، وتأريخه لخاير بك المملوك المتعاون مع العثمانيين والذي أطلق عليه الشعب خاين بك، وكيف استمر المماليك في الحكم بعد ذلك تحت الإدارة العثمانية، واهتمام واضح بشخصية الزيني بركات ابن موسى المحتسب، والذي استثمره جمال الغيطاني في روايته الشهيرة«الزيني بركات».
تاريخ ابن اياس موسوعة ليس في الأحوال السياسية وحسب، ولكن في النواحي الاجتماعية من مختلف أطرافها، في هذا المكان تقرأ عن وفاة هذا العالم أو ذلك الفقيه، وفي مكان آخر تشاهد أحوال السوق وتتعرف إلى الأسعار والموازين والتعاملات الحقيقية بين البشر في ذلك الزمان، وفي مكان ثالث تأخذ فكرة قوية عن العادات والتقاليد، وربما يهوى أحدهم كتابة معجم كامل عن المصطلحات السياسية والاجتماعية الخاصة بالدولة المملوكية، وفي مكان رابع تستمع إلى حكاياته وكأنه يتسامر معك، عن الحياة اليومية، وفي مكان خامس يرسم أمامك خريطة للقاهرة المملوكية التي لم يغادرها ابن اياس نفسه إلا مرة واحدة للحج، القاهرة بمساجدها وشوارعها ومدارسها وأسبلتها وخانقاوات الصوفية المنتشرة آنذاك وميادينها وأبوابها وطوائفها والصناعات المزدهرة فيها والبضائع المنشرة في أسواقها، مع ابن اياس لا تشاهد التقلبات السياسية فحسب ولكن تتجول في الشوارع، ويتحول التاريخ إلى كتاب مفتوح.
كتب الكثيرون عن نهاية دولة المماليك، فلابن زنبل الرمال كتاب كامل عن معركة مرج دابق، وكذلك أرخ ابن الحمصي لتلك الفترة، ولكن يبقى «بدائع الزهور في وقائع الدهور» أهم ما كتب عن هذه المرحلة، ولا يمكنك إلا أن تجد ظلاله ليس لدى الغيطاني وحسب ولكن في عشرات الكتب الأخرى، في التاريخ لدى أحمد بهاء الدين وصلاح عيسى ومحمد المنسي قنديل، وفي التاريخ الفكري لدى حسين فوزي ولويس عوض، وحتى في علم الاجتماع في ذلك الكتاب الإشكالي «تراث العبيد» الذي وقّعه صاحبه ب «ع.ع» وأثار ضجة منذ سنوات طويلة، وصولا إلى الأدب لدى كل من تناول هذه الفترة مثل سعد مكاوي وغيره.
يثير ابن اياس تلك الإشكالية نفسها التي أشار إليها الكثيرون بالنسبة للجبرتي، فهل كان ابن اياس أميناً في نقل الوقائع أم كان متحاملا على العثمانيين؟ والواقع أن كتاب الرجل يمتلئ بصور تدين عصر المماليك وكل تلك الحسرة التي نستشعرها في كلامه بعد دخول العثمانيين إلى مصر تعود إلى تحوّل مصر من دولة مستقلة ذات نفوذ قوي إلى مجرد ولاية تابعة للباب العالي في تركيا.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"