عادي

رحيل كلوفيس مقصود.. المنفرد والمتفرد

04:56 صباحا
قراءة 8 دقائق
بيروت: «الخليج»
فقدت الأمة العربية أمس أحد رجالاتها الأفذاذ الذين أفنوا عمرهم دفاعاً عن قضاياها، بالدبلوماسية والفكر والموقف، هو الدكتور كلوفيس مقصود بعد صراع مع المرض في أحد مستشفيات واشنطن.
كلوفيس مقصود واحد من جيل عربي نادر تكاد أعلامُه تختفي رويداً رويداً، إما بالموت الطبيعي، أو بانفجار الشرايين، أو بالذبول النفسي والانطواء، أو بالاحتراق اليومي جراء ما يحدث في العالم العربي.
وكلوفيس مقصود وحده كان فضاء من الثقافة والمعرفة والريادة والالتزام القومي العربي الناصع. قال مرة: «كنتُ قومياً عربياً في شبابي ولا أزال قومياً عربياً في شيخوختي».
هذا الإنسان اللطيف والمهذب كان صلباً في مبادئه، وراسخاً في عروبته، وثابتاً على ما وطّن نفسه لتحقيقه، أي النضال بالفكر والثقافة والكتابة والدبلوماسية في سبيل مستقبل العرب وحرية فلسطين. وبهذا المعنى، فإن كلوفيس مقصود كان حقاً إنساناً نادراً وألمعياً حتى بين أقرانه التاريخيين.
لم يعمل في المحاماة التي درسها في لبنان والولايات المتحد وإنجلترا، لكنه أفنى عمره وهو يحامي عن قضايا العرب كلها. وكان مقداماً في ميدانه. وقد اشتهر بأنه يصل إلى المطار باكراً جداً خوفاً من أن يتأخر على محاضرة أو ندوة أو مؤتمر أو لقاء، وحتى لا تقلع الطائرة من دونه. وهذا الحرص على ما انتدب نفسه إليه إنما كان يعكس روح التشبث بما آمن به، سياسياً أَكان هذا الإيمان أم فكرياً. وفي هذا السياق عاش كلوفيس مقصود تسعين عاماً، لكنها، في حساب السنين المثمرة تساوي أكثر من قرن ونصف القرن معاً.
وفي هذا المدى الزمني عرف ورافق وعمل مع خيرة ما أنجبته الأمة العربية من رجال كبار، ونساء كبيرات أيضاً، أمثال جمال عبد الناصر وكمال جنبلاط وميشال عفلق وياسر عرفات والمهدي بن بركه، فضلاً عن أنديرا غاندي، وتتلمذ على قسطنطين زريق وفايز صايغ وزين نور الدين زين ونبيه أمين فارس وكثيرين غيرهم.

النشأة الأولى

كلوفيس مقصود مسيحي ماروني، والدته أرثوذكسية، نشأ في بيئة درزية (في بلدة الشويفات)، وأصبح قومياً عربياً ويسارياً اشتراكياً معاً. وهذه الشخصية المركبة والغنية بفضائلها الكثيرة، ومنها حمّى البحث عن المعرفة، وحرقة الثبات عند القضايا الإنسانية النبيلة، قادته إلى أن يصبح قومياً عربياً حقيقياً، وأن يلتزم قيم الحرية والعدالة الاجتماعية والمواطنة المتساوية، وأن ينغمر، قبل ذلك كله وبعده، في النضال الفلسطيني، لأن قضية فلسطين، في جوهرها، تجسّد فقدان الحرية والعدالة. وفي هذا الميدان تأثر كثيراً بسياسة الرئيس جمال عبد الناصر منذ البداية، ولاسيّما حين عقد صفقة السلاح مع تشيكوسلوفاكيا رغماً عن الغرب في سنة 1955، فأيقن أن عبد الناصر أخرج مصر من الارتهان للغرب، وهذه سياسة ثورية وشجاعة في آن.

لم يعرف التعصّب، أو حتى العصبوية الحزبية، طريقاً إلى عقله وسلوكه. فحين كان عضواً في الحزب التقدمي الاشتراكي كان يتردد، في الوقت نفسه، بين مقهى مسعود في منطقة باب إدريس في بيروت حيث يتواجد ميشال عفلق وصلاح البيطار مؤسسا حزب البعث العربي الاشتراكي، وباتيسري سويس في باب إدريس أيضاً حيث يختلف إليه أكرم الحوراني، ولا يلبث أن ينتقل إلى مطعم فيصل قبالة الجامعة الأمريكية حيث تنعقد، بصورة دائمة، حلقات السجال، والتي كان من أبرز محركيها منح الصلح وكمال ناصر وشفيق الحوت وعاطف دانيال.

الاسم والمعنى

اسم كلوفيس أجنبي وغير شائع في قرى جبل لبنان، تماماً مثل اسم إدوارد لدى إدوارد سعيد، فسعيد اسم عربي خالص، بينما إدوارد اسم إنجليزي خالص أيضاً. وهذه الازدواجية في الاسم أورثت إدوارد سعيد مشكلات في هويته، بينما تخطى كلوفيس مقصود هذا الانشطار وحوّله إلى تفكهة. ففي سنة 1965 ألقى خطبة باللغة العربية في مسجد مدينة ماكالا الهندية التي يقطنها الآلاف من بقايا الجالية اليمنية القديمة العهد في تلك البلاد. ولما سأله أحدهم عن القبيلة العربية التي ينتمي إليها، أجاب على الفور: «نحن من بني مقصود»، فرد ذلك السائل: «الحمد الله». وفي سنة 1957 وصلته دعوة من الوزير المصري كمال رفعت لزيارة القاهرة بعد أن كتب رسالة احتجاجية على محاكمات الإخوان المسلمين في مصر. وقد اقتاده كمال رفعت، بصورة مفاجئة، إلى منزل جمال عبد الناصر في منشية البكري. وفي الطريق ألحّ على كمال رفعت أن تُلتقط له صورة مع عبد الناصر لتكون شاهد إثبات على اللقاء، ففي بيروت سيشكك كثيرون، خصوصاً منح الصلح، في صحة الرواية. المهم أنه حين وصل إلى منزل عبد الناصر، فُتح الباب، وإذا بعبد الناصر نفسه يستقبله، ثم لم يلبث أن قال له: «عامل شيخ عروبة واسمك كلوفيس؟ ما تغير اسمك يا خوي». فرد كلوفيس فوراً: «سيادة الرئيس، أقترحْ علي اسماً بديلاً. فقال عبد الناصر: «قحطان». فأردف كلوفيس: ما في شي اسم بين بين؟ وحين زارته أم كلثوم في منزله في القاهرة برفقة إحسان عبد القدوس، وبينما كان عبد القدوس يقدمه إلى «الست»، قالت له: «تشرفنا يا كلوفيس. ده اسمك الفني، واسمك الحقيقي إيه؟».

محطات في عمره المديد

ولد كلوفيس مقصود في مدينة برستو في ولاية أوكلاهوما الأمريكية في 17/12/1927 لوالدين مهاجرين من بلدة الشويفات اللبنانية. خاله المفكر القومي العربي واليساري جورج حنا أحد مؤسسي الحزب التقدمي الاشتراكي إلى جانب كمال جنبلاط والعلاّمة عبد الله العلايلي وجميل صوايا وفريد جبران. درس في الشويفات ثم في الجامعة الأمريكية في بيروت، وكان من أساتذته محمود صعب في الشويفات وقسطنطين زريق في الجامعة. وعلى أيدي هذين المعلِّمين عرف معنى القومية ومعنى العروبة ومعنى النكبة، وتأثر كثيراً بكتاب زريق «معنى النكبة» الذي قال عنه إنه «إلهام سياسي». ثم تابع دراسته في القانون الدولي في جامعة جورج واشنطن. وحين تخرّج عاد إلى لبنان بالباخرة. وفي ميناء بيروت فوجئ بوجود كمال جنبلاط بين مستقبليه. وبعد عدة أيام أعلن التحاقه بالحزب التقدمي الاشتراكي. ومع إعجابه بكمال جنبلاط، إلا أن ذلك لم يمنعه من الاختلاف معه في الموقف من تأميم قناة السويس في سنة 1956، فجنبلاط رأى في قرار التأميم تفرّداً، بينما رأى كلوفيس مقصود في القرار شجاعة وسياسة ثورية. وفي أثر ذلك الخلاف استقال من الحزب ومعه المحامي جبران مجدلاني والكاتب اللامع موريس صقر، وهذان الاثنان التحقا بحزب البعث، أما هو فعاد إلى الحزب سنة 1958، لكنه بقي بعيداً عن العمل السياسي اليومي والتنظيمي.
وفي تلك السنة تعرف إلى محمد حسنين هيكل، وازداد ارتباطاً بالناصرية. وفي سنة 1961 عُين سفيراً لجامعة الدول العربية في الهند بناءً على اقتراح عبد الناصر نفسه. واستمرت سفارته إلى الهند حتى سنة 1966، وكانت أخصب سنيّ حياته، فعاصر الحرب الهندية - الصينية سنة 1962، والحرب بين الهند وباكستان في سنة 1965. وعندما عاد إلى القاهرة عمل في جريدة «الأهرام» من 1967 حتى 1974، ثم جاء إلى بيروت ليكتب في جريدة «النهار» من 1974 حتى 1979، ويترأس مجلة «النهار العربي والدولي». لكن الدبلوماسية عادت لتختطفه من الصحافة، فعين في سنة 1979 سفيراً لجامعة الدول العربية في واشنطن، وبقي في منصبه حتى سنة 1990، فاستقال في أثناء «عاصفة الصحراء» احتجاجاً على الإذلال العربي، وانصرف إلى تأسيس «مركز عالم الجنوب» في الجامعة الأمريكية في واشنطن، وبقي في تلك الديار يكتب ويناقش ويحاضر، ويتنقل بين ديار الوطن وديار الغربة، إلى أن أراح راحلته ومضى إلى ديار لا يزور فيها أحداً ولا يُزار.


طرائف من حياته

اشتُهر كلوفيس مقصود بالظُرف والفُكاهة والسخرية اللمّاحة، وهو راوية للطرائف والمواقف اللطيفة. وفي إحدى المرات دعا كلوفيس مقصود زعيم التيار اليساري في حزب العمال البريطاني أنورين بيفان إلى زيارة لبنان ولقاء كمال جنبلاط. وحين جاء بيفان إلى لبنان بالفعل رافقه إلى بلدة المختارة. وهناك أُعد له استقبال شعبي، وكان مشايخ الدين الدروز، كالعادة، في مقدمة المستقبلين. وفي تلك اللحظة التفت بيفان إلى مقصود قائلاً: لم أعرف أن أعضاء حزبكم لديهم لباس خاص!!. وفي مناسبة أخرى زار الشيخ مصطفى السباعي أوكسفورد في سنة 1955، وكان عميداً لكلية الشريعة في جامعة دمشق، وزعيماً لجماعة الإخوان المسلمين في سوريا، وكلفت إدارة الجامعة وليد الخالدي مرافقة الضيف. وفي مساء اليوم التالي دُعي إلى عشاء في منزل مجدي وهبة مع وليد الخالدي، فطلب إليه الخالدي أن يرافق زوجته رشا سلام إلى العشاء لأنه سيتأخر قليلاً مع مصطفى السباعي، وفي المساء بينما كان يتأبط ذراع رشا سلام (وهي عمة هالة زوجة كلوفيس مقصود) وقفا عند شارة السير الحمراء، فإذا بسيارة وليد الخالدي ومعه مصطفى السباعي تتوقف بدورها عند الضوء الأحمر، ورآه السباعي متأبطاً ذراع رشا زوجة وليد لأنه لا يرى جيداً في الليل، فسأل السباعي وليد الخالدي: أليس هذا هو كلوفيس؟ فأجابه الخالدي: نعم. فقال: ومَن هي المرأة التي معه؟ فرد عليه الخالدي: لا أعرف.
وفي منزل غسان تويني في نيويورك اصطحب كلوفيس مقصود المطربة فيروز إلى إفطار لدى غسان تويني. وهناك راح يلح عليها بأن ترتل «أنا الأم الحزينة» التي تتلى في الكنائس ليلة الجمعة الحزينة (طقوس صلب المسيح)، وكانت فيروز تعتذر بلطف، عند ذلك هددها كلوفيس مقصود بأنه سيغني بدلاً منها، وبدأ ينشد أغنية وراء أغنية، الأمر الذي حدا بفيروز إلى الاستجابة ببعض الدندنة للتخلص من غنائه.
كان ياسر عرفات يطلق على الشاعر كمال ناصر لقب «الضمير»، أي ضمير الثورة الفلسطينية. وفي ليلة اغتياله (9/4/1973) كان كمال ناصر يتعشى مع كلوفيس مقصود وزوجته هالة سلام. وبعد العشاء اقترح كلوفيس أن ينام في منزل كمال ناصر كي يتسنى له في الصباح الباكر أن يذهب إلى مؤتمر صحفي في مقر منظمة التحرير الفلسطينية. لكن صديقة كمال ناصر قال له: نم في مكان آخر، فأنا أريد أن أكتب الليلة قصيدة عن الشاعر أمين نخلة لتُلقى في مهرجان تكريمي له، وأنت تصحو باكراً وتدير على الفور الراديو. فذهب كلوفيس إلى منزله البعيد في بلدة الشويفات لينام هناك. وفي اليوم التالي اتصل به ياسر عرفات قائلاً: أين الضمير؟ فأجابه: تعشينا معاً ثم عاد إلى منزله. عند ذلك قال له ياسر عرفات: ما سمعتش إيش صار؟ قتلوه. وكان كمال ناصر يذهب في كل يوم جمعة إلى جريدة «النهار» ليسلّم مقالته الأسبوعية. وكان يرغب في أن تنشر مقالته في الصفحة الأولى، فيعتذر القائمون على الجريدة بذريعة أن الصفحة الأولى هي لكُتّاب «النهار» وحدهم. وحين اغتيل كمال ناصر اتصل عبد الكريم أبو النصر بكلوفيس مقصود وقال له: وأخيراً صار كمال ناصر في الصفحة الأولى (أي أن خبر وفاته تصدّر الصحيفة).
رحل كلوفيس مقصود، ولم يبق من ذلك الجيل أحد ليروي تفصيلات شائقة من خبايا هؤلاء الذين صنعوا في تلك البيداء العربية آملاً، فأتت الضواري الجديدة لتحوّل الأمل إلى جحيم، فيا لهول أيامناً.

عبد الله بن زايد: كلوفيس مقصود سنبقي الأمل وفاء له

رثى سمو الشيخ عبد الله بن زايد آل نهيان وزير الخارجية والتعاون الدولي، أمس، المحامي والصحفي والدبلوماسي اللبناني كلوفيس مقصود، حيث كتب سموه على «تويتر»: تشرفت بالتعرف إلى الأستاذ كلوفيس مقصود قبل 30 سنة.. كان يأمل في مستقبل عربي أكثر إشراقاً.. سوف نُبقي الأمل وفاءً له وحباً لأمتنا.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"