عادي
شبهات التطرف واختراق الدولة وسياسة المحاور الإقليمية تحاصر الحركة الإسلامية

تونس.. «النهضة» في عين العاصفة

02:56 صباحا
قراءة 7 دقائق
تونس: «الخليج»، طارق القيزاني

لم تعد الأزمة السياسية في تونس خافية على أحد، في ظل ما تشهده البلاد من تجاذبات حادة بين الأحزاب، مع تواصل التعثر الاقتصادي والتحديات الأمنية، وآخرها كانت العملية الإرهابية «البدائية» التي ضربت شارع الحبيب بورقيبة؛ قلب العاصمة ورمز الثورة والتغيير، في وقت تقف فيه تونس في لحظة مراجعة تشمل جميع المستويات، وقد تحمل الأيام والأسابيع المقبلة اتجاهاً نحو إعادة تشكيل المشهد السياسي وإعادة ترتيبه، وفقاً للمستجدات الراهنة والاستحقاقات المستقبلية.
مجدداً ضرب الإرهاب أواخر أكتوبر، تونس، ليعمق الأزمة السياسية التي تحيط بالتعديل الوزاري المرتقب ودعوة حزب حركة «نداء تونس» بالخصوص، إلى الإطاحة بحركة «النهضة» الإسلامية خارج الحكم بعد سنوات من التوافق والتحالف السياسي.
جاء التفجير الإرهابي في قلب العاصمة، وسط الشارع الشهير الحبيب بورقيبة، وعلى مقربة من مقر وزارة الداخلية الذي خلّف 20 جريحاً بين أمنيين ومدنيين، ليسلط المزيد من الضوء على التحالفات السياسية والجدل الدائر بشأن اختراق مؤسسات الدولة، والحديث عن «الغرف السوداء» بوزارة الداخلية.

دلالات التفجير الإرهابي

من الناحية الأمنية، ينظر إلى العملية الإرهابية كتحول نوعي خطير في عمليات الاستقطاب والتجنيد الموجه إلى الداخل، بعد تحجيم أنشطة شبكات التسفير إلى الخارج وتضييق الخناق عليها.
وبالعودة إلى هوية منفذة التفجير الحائزة إجازة في اللغة الإنجليزية، فإن التحذيرات التي أطلقها خبراء في السابق بخطورة عمليات الاستقطاب داخل أسوار الجامعة التونسية، عبر شبكات منظمة وخطاب الاتحاد العام التونسي للطلبة ذي التوجهات الإسلامية، تحيل عملياً إلى ما حدث في شارع الحبيب بورقيبة، وترفع من جديد أصابع الاتهام إلى الحاضنة السياسية، حتى داخل المجتمع المدني للجماعات الإسلامية المتشددة.
ولا تبدو حركة «النهضة» الإسلامية بعيدة عن تلميحات المنابر الإعلامية التي استهدفتها بعد التفجير الجديد، بالنظر إلى سنوات من التطبيع والتساهل في التعاطي مع التنظيمات المتشددة إبان صعودها إلى الحكم في عام 2011، والترخيص للعشرات من الجمعيات الدينية المشبوهة ذات التمويل الأجنبي، إضافة إلى الجدل الدائر اليوم بشأن «الجهاز السري» الذي تُديره، والمعلومات الخطيرة التي كشفت عنها هيئة الدفاع عن السياسييْن الراحليْن شكري بلعيد ومحمد البراهمي، الذين اغتيلا في فترة حكمها. كما أن بعض السياسيين لم يتورعوا عن الربط بين حادث شارع بورقيبة والأزمة السياسية الحالية التي تُحيط بالحركة في علاقتها بالحكم، وهو ما جاء على لسان النائبة عن حركة «نداء تونس» في البرلمان فاطمة المسدي، التي اعتبرت التفجير رسالة من التنظيم السري لحركة «النهضة»، إلى التحركات التي حدثت في البلاد بعد المعطيات التي كشفتها هيئة الدفاع عن بلعيد والبراهمي بشأن التنظيم السري.
كما كشفت المسدي أن منفذة العملية الإرهابية تنتمي للاتحاد العام التونسي للطلبة، التابع لحركة «النهضة» وقد تم إبعادها لفترة عن المشهد وتجنيدها وتجهيزها لتنفيذ هذه المهمة، بحسب معطيات أمنية مثبتة حسب قولها، مضيفة أن هذه العملية جاءت كإجابة على لجنة الدفاع التي كشفت الحقائق في قضية الاغتيال، وإجابة على التحركات الشعبية والتحرك الوطني لكشف الحقيقة، وإجابة أيضاً على كل من يريد تغيير الوضع في تونس، في إشارة إلى إبعادها عن الحكم، عبر التعديل الوزاري المرتقب.

اختراق مؤسسات الدولة

ولم يصدر الموقف الرسمي الأخير الذي أعلن عنه حزب حركة «نداء تونس» الحاكم، بمعزل عن التطورات السياسية التي تشهدها البلاد، ولا سيما الموقف السابق الذي أقره رئيس الجمهورية الباجي قايد السبسي، بإعلانه نهاية التوافق مع «النهضة» الإسلامية، ما يعني تفعيل ذلك بشكل عملي عبر التحوير الوزاري الشامل والمرتقب.
ويرتكز موقف «النداء» الجديد بإبعاد «النهضة» عن الحكم، على رغبتها في فرض شروط التحوير الوزاري بشكل مخالف للنتائج التي أفرزتها انتخابات 2014، التي تضع «النداء» في المقدمة وتمنحه بشرعية الانتخابات زمام المبادرة.
كما يرتكز موقف «النداء» على رغبة حركة «النهضة» في فرض هيمنتها على مفاصل الدولة، وهو الأمر الذي تؤكده إحصائيات حكومية بشأن عمليات التوظيف الواسعة لأنصار «النهضة» ومقربيها، والمتمتعين بالعفو العام من السجناء السياسيين وغيرهم، في مؤسسات الدولة ومفاصلها، بعد صعودها للحكم في 2011. وقد كلف ذلك الدولة اليوم خسائر كبيرة في المالية العامة، فضلاً عن مخاطر تمس الأمن القومي حول اختراق مؤسسات حساسة، كشفت عنها هيئة الدفاع عن بلعيد والبراهمي، وتتعلق بعمليات تجسس واسعة النطاق طالت الاستخبارات العسكرية، ووزارة الدفاع، عبر جهازها السري، إلى جانب التلاعب بوثائق على علاقة بالاغتيالات السياسية والتستر عليها في «غرفة سوداء» بوزارة الداخلية، وهو ما يجري التحقيق بشأنه لدى النيابة العامة بالقطب الإرهابي لمكافحة الإرهاب والقضاء العسكري.
وهناك تحليلات تدفع إلى اعتبار بقاء «النهضة» داخل الائتلاف الحكومي في التحوير الوزاري الجديد، بمثابة ضمانة لها لتجنب الملاحقة القضائية والمساءلة بشأن التورط في عدة ملفات حساسة، لكن في تقدير السياسي زهير حمدي، الأمين العام لحزب التيار الشعبي، فإنه من غير الممكن الحديث عن تعايش سياسي سلمي في البلاد من دون إيضاح علاقة حركة «النهضة» بشبهات التورط في ملف الإرهاب؛ إذ يتوجب حسب رأيه أن تجيب الحركة على مجمل الاتهامات الخطيرة الموجهة إليها في هذا الملف.

عودة إلى المحاور الإقليمية

وليس هذا السبب الوحيد الذي يدفع حزب حركة «نداء تونس» وحزب «الاتحاد الوطني الحر»، الذي أدمج معه، وعدد آخر من الأطياف السياسية الليبرالية والعلمانية مثل حركة «مشروع تونس»، إلى المطالبة بمراجعة التحالفات السياسية في التعديل الوزاري، الذي يُتوقع أن يجريه رئيس الحكومة يوسف الشاهد قبل نهاية العام الجاري.
فما أعلنه «النداء» عبر ديوانه السياسي من استنكار لتدخل رئيس حركة «النهضة» راشد الغنوشي في العلاقات الدبلوماسية لتونس مع الخارج، بما يمس المصلحة الوطنية ويتعارض مع العرف الدبلوماسي الذي تتوخاه الدولة منذ الاستقلال، أعاد من جديد الجدل حول إقحام تونس في المحاور الإقليمية، إلى المربع الأول.
ويعتقد الحزب الذي أسسه الرئيس قائد السبسي؛ أحد صناع السياسة الخارجية لتونس منذ دولة الاستقلال مع الزعيم الراحل الحبيب بورقيبة، أن المواقف الصادرة من حزب «النهضة» بصفتها شريكاً في الحكم اليوم، يعد انقلاباً خطيراً على الدبلوماسية الرسمية للدولة التي عمل «النداء» على ترميمها وإعادة تثبيتها، بعد فوزه في انتخابات 2014، رداً على الانحرافات التي حصلت بين 2011 و2014 في فترة التحالف الحكومي الذي قادته «النهضة» الإسلامية والرئيس السابق المنصف المرزوقي، الذي زجّ بتونس قسراً في المحور القطري التركي وجماعة «الإخوان» المسلمين في مصر.
ويمثل موقف حركة «النهضة» من أزمة الدوحة وحشر أنفها في قضية مقتل الصحفي السعودي جمال خاشقجي أمراً مقلقاً للدولة التونسية، كما يثير مخاوف جديدة من اختطاف مؤسسات الدولة وضرب مدنيّتها.
وبالنسبة إلى المتحدث باسم «نداء تونس» والنائب في البرلمان المنجي الحرباوي، فإن التعرض للدول الشقيقة ومنها المملكة العربية السعودية، أمر يرتقي إلى «الأفعال الذميمة» وغير المسموح بها، فضلاً عن تقديم راشد الغنوشي في مظهر المرشح الانتخابي للرئاسة ونزعة التغول على مؤسسات الدولة، وإفساد المناخ الديمقراطي.
وربما جاء بيان الخارجية التونسية في محاولة لإعلان الموقف الرسمي التونسي، ولكن أيضاً تحذيراً للحزب الشريك في الحكم حتى اليوم بثوابت الدبلوماسية الرسمية للدولة، التي تؤكد علاوة على العلاقات المتميزة بين تونس والسعودية، أن «رئيس الجمهورية هو المسؤول حصرياً، عن ضبط السياسة الخارجية للبلاد التونسية، التي تتولى وزارة الشؤون الخارجية تنفيذها ومتابعتها».
ومن برلين شدد الرئيس الباجي قائد السبسي، على أن تونس تدعم التحقيقات السعودية في قضية خاشقجي، مؤكداً أن المساس بالمملكة مساس بكل الوطن العربي، وهو موقف تونسي أصيل يتمثل في عدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول الأخرى، والمحافظة على علاقات حسنة مع الدول العربية كافة وفي صدارتها دول الخليج العربية.

نظرة إلى المستقبل

وعلى خلفية التطورات الأمنية والسياسية، يؤكد مراقبون، أن المشهد السياسي التونسي يعرف مخاضاً هادئاً من المتوقع أن تتولد عنه مراجعة لكثير من السياسات والمواقف. وقد تحمل المساعي لتعديل حكومي جديد في الفترة المقبلة، بعض مظاهر المراجعة. وحين تطالب حركة «نداء تونس» بتشكيل حكومة جديدة بعيدة عن التحالف مع «النهضة»، فذلك يعكس وعياً جديداً بأن مثل هذه التحالفات لم تحقق نتائج طيبة على جميع المستويات.
ويستنتج المتابعون، أن تجارب التحالفات الحزبية في الحكم، على تعدد صيغها من الإطاحة بالنظام السابق، قد فشلت في تحقيق الأهداف المنشودة. فالحكومة الأولى بعد انتخابات المجلس التأسيسي في أكتوبر 2011، انتجت تحالفاً ثلاثياً بقيادة «النهضة»، ولم تتمتع تلك الحكومة المؤقتة بأداء جيد؛ بل إن عهدها عرف خروقاً أمنية خطيرة تمثلت في فتح الأبواب واسعة أمام الخطابات المتطرفة، وتم السماح لشبكات مشبوهة تدعمها الدوحة وتركيا، بتجنيد آلاف الشبان التونسيين الذين تم استقطابهم باسم «الجهاد» للقتال في سوريا والعراق، خصوصاً ضمن جماعات «داعش» و«النصرة»، ومازال هذا الملف مفتوحاً للتحقيق تحت عنوان: «تسفير الشباب إلى التنظيمات الإرهابية».
ولم يتوقف الأمر عند هذا؛ بل إن تلك الحكومة أدخلت تونس في سياسة المحاور، وهو توجه يتضارب من مبادئ الدولة التونسية في سياستها الخارجية. وعلى الرغم من أن الحكومة الحالية بقيادة حركة «نداء تونس» صححت المسار والتزمت بالتقاليد الدبلوماسية، إلا أن أحد الأطراف الحكومية وهو حركة «النهضة» مازال يحن إلى ماضيه القريب ويريد الخروج على الثوابت، وهو ما لم يعد مسموحاً به، وبناء عليه قرر الرئيس الباجي قائد السبسي، قبل أسابيع، الطلاق مع «النهضة»، والدعوة إلى إعادة صياغة التحالف الحكومي.
فمحاولة استشراف المستقبل، تشير إلى أن عملية الإصلاح والتصحيح قد تقود إلى إجراء تعديلات جوهرية على الدستور والنظام الانتخابي، وفق ما يقول عديد المراقبين، وتنبع هذه الدعوات من رغبة في امتصاص خيبة أمل التونسيين في النخب السياسية، التي لم تقدم الحلول الجذرية ولا الإصلاحات الموعودة.
وأظهرت «العواصف» التي مرت على المشهد السياسي في السنوات الأخيرة، أن حركة «نداء تونس» دفعت ثمناً كبيراً جراء تحالفها مع «النهضة». فقد تعرضت الحركات لانشقاقات كبرى، كادت أن تعصف بكيان الحركة ومستقبلها.
وتحسباً للمستقبل، بدأت قيادات «النداء» العمل مبكراً على ترميم البيت الداخلي، ومعالجة التصدعات الواقعة فيه. فالانتخابات التشريعية المقررة العام المقبل، ستكون امتحاناً قاسياً على الجميع وعلى «نداء تونس» أكثر من غيرها. وبما أنها حركة أنشئت، على مبادئ وقيم من تجربة الزعيم الراحل الحبيب بورقيبة، فقد أصبحت مضطرة إلى العودة إلى منطلقاتها النقية، وإعادة الانطلاق برؤية مختلفة وأهداف تونسية صرفة.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"