أزمة الاقتصاد السياسي

02:04 صباحا
قراءة 4 دقائق

الأزمة الاقتصادية العالمية الجارية هي أزمة تمويل وائتمان دولي . كانت نتيجة اخطاء تشريعية وادارية بالاساس . ظهرت منابعها في الولايات المتحدة الامريكية وامتدت لتشمل كافة وحدات النظام العالمي . وعلى الرغم من الارتباط البنيوي بين الاقتصاد والسياسة إلا انه يلاحظ غياب (ان لم يكن انعدام) الدراسات التي تطرقت لأسباب وآثار هذه الازمة الاقتصادية على الاوضاع السياسية والاستراتيجية الراهنة في النظام الدولي . وهل لهذه الازمة تداعيات سياسية، أم انها مجرد ازمة ائتمان وتمويل وليست ازمة اقتصاد سياسي؟

نعتقد أن الازمة الاقتصادية العالمية الراهنة ليست مجرد ازمة ائتمان أو ازمة تمويل (ازمة القروض العقارية كما يطلق عليها) وانما هي بالاساس ازمة اقتصاد سياسي . ظهرت نتيجة اختلال العلاقة بين دعامتي النظام الدولي القائم منذ ويستفاليا 1648؛ وهما الدولة القومية والاسواق . ونقول ايضا إن السبيل الوحيد للخروج من هذه الازمة هو بإعادة وتصحيح مسار العلاقة المختلة بين الدول والاسواق . والذي يجادل اصحاب المدرسة الواقعية الجديدة بأنه لا بد من وجود نوع من الاشراف الحكومي على آليات حركة الاسواق . والعمل على ايجاد التشريعات القانونية والادارية القادرة على كبح جماح حركة الاسعار والتحكم (ولو جزئياً) في حركة وميكانيزم العرض والطلب وابقائها داخل حدود المعقول والمقبول .

يطرح هذا المقال ثلاثة اسئلة ويحاول تقديم الاجابة عنها في سبيلنا لتوضيح وتفسير ماهية الازمة الاقتصادية العالمية الحالية وكيف نشأت هذه الازمة؛ وكيف السبيل للخروج منها سالمين؟ متخذين من اطروحات المدرسة التجارية الواقعية وخاصة آراء البروفيسور روب إرت جلفن استاذ الاقتصاد السياسي بجامعة Princeton؛ الذي يرى انه لا يمكن فهم الاقتصاد (الجزئي) من دون وضعه في سياقه السياسي (الكلي) وهو النهج الذي ندعمه ونوافق على اطروحاته .

ويعد اختلال العلاقة بين الاسواق والدول من جانب . وعدم فاعلية اليات وادوات الكبح والتوازن والرقابة في اغلب الاسواق العالمية من جانب ثان؛ واخيراً سيادة الترابط والتكامل البنيوي بين اطراف النظام المالي والنقدي العالمي الحالي هو السبب الرئيسي للأزمة العالمية .

وفي رأي اغلب علماء الاقتصاد الامريكي منبع الازمة فإن السبب الرئيسي وراء وقوع هذه الازمة العالمية الامريكية بالأساس هو التوسع في الاقراض والتمويل خاصة في مجالات التمويل العقاري ذات المخاطر العالي من دون التأكد من وجود ضمانات كافية تكفل سداد هذه القروض . هذا الى جانب غياب وجود آليات الرقابة والضمانات الكافية الذي ادى الى التساهل في اعطاء هذه القروض، وهو ما جعل حصصاً كبيرة من حجم اموال هذه القروض تعطى لفئات غير قادرة عن السداد؛ وهو ما اوجد ازمة مالية نظراً لعجز هؤلاء الاشخاص على السداد . وبالتالي لجوئهم الى الاقتراض مرة اخرى من البنوك لسداد اقساط هذه القروض . وطبقاً لنظرية الاواني المستطرقة فقد استفحلت الازمة حتى وصلت لإفلاس عدد من كبريات شركات التأمين والبنوك والتمويل العقاري . وبالتبعية باقي الانشطة الاقتصادية الاخرى في الولايات المتحدة القائمة بالاساس على المجال المصرفي والبنكي في التمويل وتوفير السيولة . أما عن باقي وحدات النظام الدولي، فباعتبارها القوة المهيمنة وقائدة النظام الاقتصادي العالمي فان الولايات المتحدة الامريكية اصابت باقي وحدات النظام بعدوى هذه الازمة التي لحقت بنظامها الاقتصادي القومي . لارتباط هذه الدول عضوياً (مالياً ونقدياً) بالنظام الاقتصادي الوطني الامريكي طبقاً لنظرية الاستقرار بالهيمنة التي تقول إن مصدر الاستقرار في النظام الدولي هو وجود دولة قائدة قادرة على ادارة النظام الاقتصادي الدولي والتحكم فيه . هذه الدولة لو اصيبت ببرد لعانت باقي دول النظام الحمى والسهر . وهو ما حدث .

ويعتمد السبيل للخروج من متاهات هذه الازمة أولاً: على طبيعة السياسات الاقتصادية والقانونية التي ستستخدمها الولايات المتحدة الامريكية في المستقبل باعتبارها الدول المهيمنة دولياً على النظام (الاقتصادي) العالمي حتى الآن . فاذا لم تقدر الولايات المتحدة على النهوض من كبوتها فان النظام الاقتصادي العالمي سيدخل في دوامة الركود مثلما حدث في الثلث الاول من القرن العشرين عندما ترنحت القوى المهيمنة على النظام الاقتصادي العالمي في ذلك الوقت (بريطانيا) وسيضطر العالم الى الانتظار لبزوغ نجم قوى مهيمنة اقتصادية جديدة (غالباً ستكون اليابان أو اوروبا وليس الصين) لاعادة صياغة النظام الاقتصادي العالمي ووضع قواعد واسس لنظام اقتصادي عالمي جديد غير ذلك السائد منذ بريتون وودز 1947 . ثانياً: اعادة التوازن في العلاقات بين الدول القومية والاسواق فلا يجب ان تغيب الدوله كلياً عن المجال الاقتصادي كما هو حادث الآن؛ ولا يجب من جانب آخر ترك الاسواق وحركة الاسعار طبقاً لميكانيزم العرض والطلب تتحكم في المجال الاقتصادي العالمي . وانما يجب تفعيل دور الدولة باعتبارها المنظم الرئيسي للمجتمع؛ وذلك عن طريق تفعيل التشريعات القانونية الخاصة بمكافحة ومحاربة الفساد والتربح غير المشروع والمصالح الخاصة والاحتيال والاحتكار وغيرها من صور الفساد الاقتصادي والاداري الذي كان السبب الرئيسي وراء ما حدث، وما سيحدث في المستقبل .

* باحث في العلاقات الدولية - الشارقة

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"