حياد الكربون

01:08 صباحا
قراءة 4 دقائق
د. محمد الصياد *

لأن المصطلح فضفاض فإن مستخدميه يعطون لأنفسهم مساحة مريحة للتوسع في فهم مقاصد تطبيقاته. فهم يذهبون إلى حد الإحلال الكامل لمصادر الطاقات المتجددة محل مصادر الطاقة الأكثر نفثاً لغازات الاحتباس الحراري
«حياد الكربون» (Carbon Neutrality
)، كما سبق وذكرنا، مصطلح حديث دخل قاموس أوكسفورد في عام 2006، ولم تتم الإشارة إليه بالنص في اتفاق باريس لتغير المناخ، على الرغم من اتكاء الأوروبيين في إشاعة استخدامهم للمصطلح وأغراضه والتوسع فيه، على البند الأول من المادة الرابعة من الاتفاق الذي ورد فيه ما نصه «...من أجل تحقيق توازن بين الانبعاثات البشرية المنشأ من المصادر وعمليات إزالتها بواسطة البواليع (أقنية تصريف الكربون) في النصف الثاني من القرن...». وهو يستخدم لوصف حالة شركة أو خدمة أو منتَج أو حدث، حيث تتم بموجبه موازنة انبعاثات الكربون الناتجة عنهم عبر تمويل كمية مساوية من وفورات الكربون في أماكن أخرى من العالم.
ويعني حياد الكربون، أو التوصل إلى بصمة كربونية صافية، تحقيق صافي انبعاثات ثاني أكسيد الكربون من خلال موازنة انبعاثات الكربون مع إزالة الكربون (في كثير من الأحيان عن طريق تعويض الكربون)، أو ببساطة، القيام بإزالة انبعاثات الكربون تماماً، بما يفضي للانتقال إلى «اقتصاد ما بعد الكربون». بمعنى أن الهدف من استخدام تعويضات الكربون هو تحييد حجم معين من انبعاثات غازات الدفيئة عن طريق تمويل المشاريع التي من شأنها أن تتسبب في تخفيض مماثل لانبعاثات غازات الدفيئة في مكان آخر (هذا هو التوازن المقصود تحقيقه بالتعويض)، عبر غرس الأشجار مثلاً، عملاً بفرضية «التقليل أولاً ما أمكن من الانبعاثات، ثم القيام تالياً بالتعويض عن تلك الانبعاثات التي لا يمكن تفاديها». ويمكن إجراء التعويض إما عن طريق دعم مشروع لخفض الكربون، أو بشراء تعويضات الكربون أو أرصدة الكربون.
ولأن المصطلح فضفاض، فإن مستخدميه، يعطون لأنفسهم مساحة مريحة للتوسع في فهم مقاصد تطبيقاته. فهم يذهبون، على سبيل المثال، في اقتراحاتهم بهذا الشأن، لحد الإحلال الكامل لمصادر الطاقات المتجددة (طاقة الرياح والطاقة الشمسية خصوصاً) محل مصادر الطاقة الأكثر نفثاً لغازات الاحتباس الحراري، وتحديداً الطاقة الأحفورية، خصوصاً منها النفط والفحم، باعتبار أن ذلك يمثل المقاربة الأكثر نجاعة للقضاء الكامل على انبعاثات الكربون، وصولاً لما يطلقون عليه «اقتصاد ما بعد الكربون». وتذهب مقاربة «تحييد الكربون» - وهي تبقى فرضية على أية حال - إلى أن بالإمكان أيضاً منع ثاني أكسيد الكربون من دخول الغلاف الجوي بالكامل عبر تقنية تنقية الكربون.
وكما أسلفنا، فإن اتفاق باريس لا يذكر بالنص «حياد الكربون»، وإنما يشير من خلال المادة الرابعة إلى هدف تحقيق التوازن بين الانبعاثات البشرية المنشأ، حسب مصادر نشأتها، وبين عمليات إزالتها بواسطة مصارف غازات الاحتباس الحراري. وهو هدف يسعى الاتفاق لتحقيقه في النصف الثاني من هذا القرن. أما كيفية تحقيق ذلك، فلعل المقاربة الفرنسية لحياد الكربون المتمثلة في خطة فرنسا المعنونة «العامل الرابع» (Factor
4)، والتي تستهدف خفض الانبعاثات إلى ربع مستويات عام 1990 بحلول عام 2050، تجيب بعض الشيء على هذا التساؤل. وهذا يعني خفضها بنسبة 75%. وتبقى نسبة 25% منها يُفترض - كما تذهب الخطة - تعويضها، وبالتالي تحقيق حياد الكربون. وبهذا تكون المعادلة على النحو التالي: تخفيض بنسبة 75% في الانبعاثات من مصدرها + 25% تعويض عن الانبعاثات المتبقية = صفر صافي انبعاثات.
الآن، وبعيداً عن المعنى المقصود لحياد الكربون، والذي يسبغه عليه مطلقوه وواضعو خطط تنفيذه، ويفسرونه على النحو المبين أعلاه، لابد أن يبرز سؤال آخر ويتعلق هذه المرة، بما يمكن للمرء أن يقرأه خلف سطوره. من جهتنا، فإننا نقرأ من خلال التمعن في مفرداته وتفسيراتها، أنه مفهوم وضع خصيصاً لصياغة سياسة قائمة على «الغموض البديع» (إن جاز التعبير). فمضمونه ينطوي على إقرار ضمني بأنه لا يمكن تجنب الانبعاثات، وأنه، لهذا السبب، يتعين، للتعويض عنها (كما تذهب بالنص المفردة المستخدمة من جانب واضعي مقاربته)، اتباع وسائل أخرى مساعدة لتحييدها (وليس للتخلص منها نهائياً بصورة حقيقية). وما دام الأمر يتعلق ب«التحييد» وليس بالتخلص من الانبعاثات، فقد تُرك القصد والهدف من المقاربة فيما إذا كان يشمل الانبعاثات المباشرة وغير المباشرة، أم أنه يقتصر على الانبعاثات المباشرة، مبهمين، وإن كانت الخطة الفرنسية المعلنة مؤخراً حول تحييد الكربون بحلول عام 2050، تشمل الانبعاثات المباشرة وغير المباشرة، من خلال الاستثمار في 10% من مصادر الطاقة المتجددة.
وبحسب مقاربة «تحييد الكربون»، فإن الأولوية تعطى لخفض الانبعاثات في المصدر، ومن بعد يتم تعويض الانبعاثات المتبقية عن طريق تطوير طاقة امتصاص الكربون في مصبات الكربون الطبيعية، بما يفضي إلى ما يسمى «الانبعاثات السلبية»، التي يتم التوصل إليها من خلال امتصاص الغابات والتربة أو الأراضي الرطبة لانبعاثات ثاني أكسيد الكربون. وبموجب خطة تحييد الكربون الفرنسية، سوف يتم وضع نظام ملصقات تأشيرية، على أن يكون تطبيقه بصورة طوعية، وستوضع أولى ملصقات «كربون منخفض» في مشاريع موازنة الانبعاثات بقطاعي الغابات والزراعة، على أن يتم تعميمه على القطاعات الأخرى التي لم تطلها بعد سوق الكربون الأوروبي.
ما الذي يعنيه ذلك؟ إنه يدلل على صعوبة تحقيق هدف المادة الثانية في اتفاق باريس لتغير المناخ، المتمثل في عدم تجاوز ارتفاع درجات الحرارة لحاجز درجتين مئويتين بنهاية القرن. فالجميع مستعد، على الأقل لفظياً، وخطياً أيضاً، للمشاركة الفاعلة في جهود خفض انبعاثات غازات الاحتباس الحراري الستة، وتجنب سيناريو الدرجتين المئويتين. لكن على أرض الواقع، فإن الجميع يحاول أن يفعل ذلك بأقل تكلفة مالية واقتصادية وتنموية، وهو ما تنتج عنه مقاربات توفيقية بين هذا الهدف وبين الاستحقاقات التنموية، الاقتصادية والاجتماعية.

* كاتب بحريني

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"